
في أروقة المحاكم؛ حيث تختلط الوجوه بين باحثٍ عن حق، ومقهورٍ من ظلم، وامرأةٍ تحمل بين يديها أوراق الدعوى كأنها تحمل نهاية قصة عمر، تدور حكايات لا تنتهي…
تبدأ بزغاريد الزفاف، ثم تنتهي بتوقيعٍ على ورقة الطلاق.
تبدو جدران المحكمة صامتة، لكنها تحفظ أسرارًا كثيرة… أصوات الجدال، دموع الانكسار، همسات المحامين، والعيون التي تروي آلاف الحكايات دون أن تنبس بحرف.
تعدَّدتْ الأسبابُ والنتيجة واحدة : طلاق.
بين خيانةٍ تفتّت القلوب، وغيرةٍ تجاوزتْ حدود الحب، وواقعٍ اقتصادي خانق، يقف الزواجُ اليوم أمام اختبارات قاسية تُهدَّد كيانه.
من داخل إحدى أروقة محكمة الأسرة الابتدائية، كانتْ لنا جولة لرصد بعض القصص التي تعكس واقعًا مؤلمًا عن مؤسسة كان يُفترض أنّ تكون سكنًا، ومودةً، ورحمةً، فإذا بها تتحوَّل إلى ساحة صراع، وكشف حساب.
خيانة على الهاتف
تجلس «إسراء» الثلاثينية وهي تخفي دموعها خلف وشاحها الأسود، تقول بصوت متهدّج :
ما كنتُ أتخيل أنَّ نهاية بيتي تكون بسبب هاتف. كنتُ أظنه يلعب فقط، حتى اكتشفتُ «رسائل حب» متبادلة مع امرأة لا يعرفها سوى على الإنترنت. واجهته، فاتهمني بالجنون. واليوم أنا هنا أطالب بالطلاق بعد عشر سنوات من الصبر.
تحكي «إسراء» عن خيانة افتراضية تحولتْ إلى انهيار حقيقي، مؤكدةً أنّ «الثقة حين تُكسر لا تُرمّم».
الطلاق بسبب الأهل
بينما كانتْ «هناء» تنظر إلى الأرض خجلاً، قالتْ :
زوجي لم يكن سيئًا، لكن أمه كانتْ ترى أنني دخيلة على ابنها. كل خلاف بسيط يتحوَّل إلى حرب، والبيتُ أصبح ساحة صراع.
حاولتُ أن أتحمل، لكن في النهاية لم أعد أحتمل الإهانة.
هذى ليستْ وحدها؛ فكثير من الزيجات تتحطم تحت وطأة تدخل الأهل، وتضيع المودة بين «نصائح» لا تُطلب، وقرارات تُتخذ باسم المحبة، والعنف الزوجي.
أما «مريم»، فتقف أمام القاضي وهي ترفع كمَّها لتُظهر آثار كدمات قديمة، وتقول:
كل مرة كان يعدني أنها الأخيرة، لكن العنف أصبح عادته. لم أعدْ أرى فيه رجل البيت بل سجّانًا.
قضية مريم لم تكن مجرد طلاق، بل صرخة ضد العنف المبرَّر باسم القوامة، وضد صمت نساء كثيرات يعشن الألم خوفًا من نظرة المجتمع.
الطلاق الصامت
«منال» لم تتعرض للعنف ولا للخيانة، لكنها قالتْ بهدوء مؤلم:
لم نعد نتحدث. جلساتنا يسودها الصمت. كل واحد يعيش في عالمه. الطلاق لم يكن قرارًا مفاجئًا… كنا مطلقين منذ زمن، ونحن تحت سقف واحد.
هذا النَّوع من الطلاق «النفسي» ينتشر بصمت بين الأزواج الذين يعيشون معًا جسدًا بلا طلاق بسبب المال
بين دفاتر الديون والالتزامات، حكتْ أماني :
كل مشكلاتنا كانتْ عن المال راتبي لا يكفي، وهو بلا عمل، وكل نقاش يتحوَّل إلى شجار. وصلنا إلى نقطة لم نعد نستطيع فيها أن نحيا بكرامة.
الضغوط الاقتصادية اليوم ليستْ مجرد أرقام في البنوك، بل أسباب حقيقية تفتت البيوت وتقتل الاستقرار العاطفي.
طلاق في ليلة الزفاف
في قصة لا تُصدق، قالت «ر.م» وهي تمسح دموعها أمام قاعة الجلسات :
لم أُكمل يومي الأول كعروس، اكتشفتُ أن زوجي أخفى عليّ زواجه السابق. لم يكن الأمرُ أنه متزوج فقط، بل لديه طفلان! حين واجهته، انفجر غاضبًا وقال: كنتُ ناوي نقوللك بعدين، تركتُ فستاني الأبيض على الكرسي وعدتُ إلى بيت أهلي.
قضية استغرقتْ أسبوعًا واحدًا فقط، كانت أسرع حالة طلاق في المحكمة خلال العام، وسُميت بين الموظفين بـ )طلاق الليلة البيضاء(.
تسلية أنهتْ الزواج
قالتْ «ليلى» وهي تلوّح بنسخ من صور مطبوعة:
اكتشفتُ أنه يعلّق على صور نساء غريبات بكلمات غزلية!!، وعندما طلبتُ منه التوقف، قال إنها مجرد تسلية. لكن التسلية هذه أنهتْ زواجنا.
أصبحت مواقع التواصل اليوم طرفًا خفيًا في كثير من الدعاوى، و«زر الإعجاب» صار أحيانًا شرارة حرب زوجية.
الطلاق من أجل السفر
يروي أحد المحامين:
قدَّم رجل دعوى تطليق زوجته لأنها رفضتْ السفر معه إلى أوروبا، وقال إنها عقبة أمام مستقبله، بينما ردتْ الزوجة بأنها لن تترك والدتها المريضة. انتهى الأمر بطلاق مؤلم، وهاجر وحده.
قصة تختصر صراعًا بين الطموح الإنساني والواجب العائلي، بين حلم الهجرة ودفء الانتماء.
قالت مبروكة في الخمسين من عمرها :
كبر أولادي، فقرَّرتُ أن أعيش ما تبقّى بكرامة.. سنوات من الإهانة وسكوتي لم أعد أتحمل.
هي ليست مراهقة غاضبة، بل امرأة ناضجة قررتْ في منتصف العمر أن تبدأ من جديد.
كثير من القضايا اليوم تُرفع من نساء تجاوزن الأربعين، بعد أن كان الصمت يومًا خيارًا وحيدًا.
بسبب السحر والشعوذة
قال الزوج «م.ع» أمام القاضي بصوت مرتجف:
اكتشفتُ أنها تذهب لعرافة لتجعلني أحبها أكثر. وبعدها تغيّرتْ حياتي تمامًا!.
الزوجة أنكرتْ، لكنها لم تستطع تفسير الرسائل الصوتية والمبالغ المالية المحوّلة.
النتيجة : طلاق غريب جمع بين الخوف والجهل والخرافة.
الطلاق بسبب كلب
تبدو القصة مضحكة لكنها حقيقية.
قالتْ «س – م» بابتسامة حزينة:
كان يكره الكلاب، وأنا أعتبر كلبي جزءًا من عائلتي. طلب مني التخلص منه، أو الطلاق، فاخترتُ الطلاق.
هذه القصة نُوقشتْ مطولًا في المحكمة باعتبارها «قضية غير مألوفة»، لكنها تطرح سؤالًا عن الاختلافات الصغيرة التي قد تهدم حياة كاملة.
تحكي سميرة :
زوجي كان يرفض أن أشتري شيئًا لنفسي. يقول إن المكياج تافه والملابس رفاهية، وبينما أنا أرى أن الاهتمام بالنفس حق. كل شيء عنده حرام، أو إسراف. كنتُ أختنق كل يوم.
حين غادرتُ المنزل، قلتُ له: المرأة التي لا ترى نفسها جميلة في بيتها، لا تشعر بالأمان فيه.
وهي جملة ظلتْ تتردّد بين الحاضرين طويلاً بعد الجلسة.
بسبب «تيك توك»
قالت الزوجة «أ.س»:
بدأتْ القصة بفيديوهات قصيرة كنتُ أنشرها في المطبخ، ثم طلب مني أن أتوقف لأن الجيران يتكلمون. بعد فترة أصبح يشكّ في كل مَنْ يعلق! تحولتْ الغيرة إلى عنف، وانتهى الأمر بالطلاق.
قصة تعبّر عن تصادم الأجيال بين حرية التعبير الجديدة، وحدود التقاليد القديمة.
يقول الزوج «ف» :
لم تعد تتكلم. لا تجادل، لا تبتسم، لا تشارك بشيء. كأنها غادرتني وهي ما زالتْ في البيت.
بين الصمت والغياب العاطفي ضاع زواج استمر سبع سنوات، انتهى دون خيانة، أو عنف. فقط لأن الحديث توقف.
وبين أروقة المحاكم عشرات القصص يوميًا، لكن القاضي«م. الكيلاني» يرى أنّ ما يحدث يتجاوز مجرد خلافات أسرية بسيطة :
الطلاق لم يعد ظاهرة فردية، بل مشكلة اجتماعية متصاعدة. في السابق كنا نستقبل خمس قضايا في الأسبوع، أما اليوم فالقضايا تتضاعف بشكل مقلق. الأسباب تتنوع، من الخيانة إلى الضغوط المعيشية، لكن القاسم المشترك هو غياب الحوار الحقيقي داخل الأسرة.
ويؤكد أحد المحامين المتخصصين في قضايا الأحوال المدنية، أ. عبدالله القماطي، أن الكثير من القضايا كان يمكن تجنبها لو وُجد تدخل مبكر:
نحن نرى أزواجًا يصلون إلى المحكمة بسبب أمور صغيرة جدًا مثل سوء تفاهم، أو تدخل من الأهل لكنها تتضخم مع الوقت. غياب مراكز الإرشاد الأسري في ليبيا جعل المحكمة هي الخيار الأول بدل أن تكون الأخير.
أما الاختصاصية الاجتماعية سعاد الورفلي فتربط ارتفاع نسب الطلاق بتغيّر منظومة القيم في المجتمع الليبي:
جيل اليوم يعيش بين عالمين مختلفين؛ عالم رقمي مفتوح يروّج لصورة مثالية عن الحياة الزوجية، وواقع صعب مليء بالتحديات. بين الصورتين، يحدث الصدام. الكثير من الأزواج يدخلون الزواج دون وعي، أو استعداد نفسي حقيقي.
وتضيف:
لم يعد الزواج عند البعض مشروع حياة، بل تجربة سريعة. هناك من يختار شريكًا بناءً على مظهر، أو انطباع عابر، ثم يُفاجأ بحقائق لا يستطيع التعايش معها.
من جهتها، ترى المستشار القانوني زينب سعد أن القوانين وحدها لا تكفي لمعالجة الظاهرة:
القانون يُنصف المتضرَّر قانونيًا، لكنه لا يُرمم الشرخ الاجتماعي. المطلوب هو تثقيف مجتمعي، وتدريب الأزواج على مهارات التواصل وحل الخلافات قبل أن تصل إلى القضاء.
الطلاق كجرح صامت
الخبير النفسي د. محمد الفيتوري يصف الطلاق بأنه عملية فقد مزدوجة :
ليس فقد شريك فقط، بل فقد صورة الذات، والمكانة الاجتماعية، والأمان النفسي. النساء غالبًا يعانين من تبعات الطلاق أكثر لأن المجتمع لا يرحم المطلقة، رغم أن كثيرات هنّ الضحايا الحقيقيات.
ويشير إلى أن الأطفال هم «ضحايا الظل» في هذه القضايا:
الأثر النفسي على الأطفال لا يظهر فورًا، لكنه يتراكم. الطفل الذي يشهد صراخًا وخصامًا يوميًا، ينشأ على خوفٍ من الحب، وعدم ثقة في العلاقات. تغلق المحكمة أبوابها كل مساء، لكن الحكايات تبقى عالقة في الممرات.
كل قضية تحمل وجهًا من وجوه المجتمع: امرأة تعبتْ، رجل انهار، وأطفال لا يعرفون سوى أن «باب البيت تغيّر».
الطلاق لم يعد حدثًا نادرًا، بل صار مرآة لزمن تتغير فيه المفاهيم والأدوار.
وبين الحب والخسارة، تبقى الحقيقة مؤلمة:
أن بعض العلاقات تموت بصمت. قبل أن تُعلن وفاتها رسميًا في قاعة المحكمة.
من بين الملفات المكدّسة في محاكم الأسرة، تتكرر ذات المأساة بأسماء ووجوه مختلفة.
كل ورقة طلاق تحمل قصة حب ماتت، وأحلامًا انكسرت، وأطفالًا سيدفعون الثمن.
لكن بين تلك الجدران أيضًا، يولد وعي جديد:
وعي بضرورة الاختيار الصحيح، والحوار، والمساواة، واحترام الذات قبل أي شيء.
فالزواج ليس سجنًا، ولا معركة، بل شراكة إنسانية تقوم على المودة لا على السيطرة، وعلى الاحترام لا على الخوف.
ويبقى السؤال مفتوحًا:
هل أصبح الطلاق اليوم حلًّا سهلًا. أم نتيجة حتمية لعلاقات لم تُبنَ على أساس متين؟
طلقها وقال
إنها عقبة
أمام
مستقبلي !!


