
في الوقت الذي يترقب فيه المواطن الليبي أي بارقة أمل لتحسن أوضاعه المعيشية، تتواصل موجة الغلاء التي تضرب الأسواق بشكل غير مسبوق، مدفوعة بارتفاع سعر الدولار في السوق الموازي، وتذبذب السياسات النقدية والاقتصادية.
وبين معاناة المواطن وغياب الرقابة، تتزايد التساؤلات: إلى أين يتجه الاقتصاد الليبي؟، وهل هناك حلول واقعية توقف هذا النزيف اليومي في الدخل والقدرة الشرائية؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، أجرينا هذا الحوار مع الخبير الاقتصادي الأستاذ محمد درميش،
مشرف الملف الاقتصادي والاجتماعي بالقسم العلمي بالمركز القومي للدراسات والبحوث العلمية سابقًا. الذي قدّم قراءةً دقيقةً لأسباب الأزمة وسُبل الخروج منها.
السؤال الأول: حول الوضع المعيشي وتأثير الدولار
في ظل استمرار ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الدينار الليبي، كيف ترون تأثير هذا الارتفاع على القدرة الشرائية للمواطن الليبي، وما هي السياسات الاقتصادية العاجلة التي يجب اتخاذها لتخفيف العبء المعيشي وتحقيق استقرار نقدي فعّال؟
محمد درميش :
بدايةً، لا بد من الإشارة إلى أن هذه الأزمة ليستْ وليدة اللحظة، بل بدأتْ منذ عام 2016 حين اتخذتْ الدولة قرارًا أحاديًا بفرض ضريبة على الواردات، الأمر الذي حافظ على سعر الدولار في السوق الموازي عند مستويات مرتفعة وصلتْ إلى 9 و12 دينارًا، وهو ما استنزف مدخرات النَّاس.
في 2018، فُرضتْ ضريبة على شراء العُملة الأجنبية رغم انخفاض سعر الدولار لأقل من خمسة دنانير، لكن المرتبات لم تعد قادرة على مجاراة التغيرات، وفي 2020، مع توحيد سعر الصرف عند 4.48 دينار، ارتفع التضخم وزادتْ الأسعار، ما دفع كثيرًا من العاملين في القطاع الخاص إلى ترك أعمالهم والبحث عن وظائف في القطاع العام، مما أثقل الميزانية العامة..أما في 2024، فتم تعديل سعر الصرف إلى 5.56 مع فرض رسم إضافي، ليصبح سعر الدولار في المصارف 6.25، فيما ظل السوق الموازي يتراوح بين 7.60 و8.20. كل هذا يعكس غياب التنسيق بين السياسات المالية والتجارية والنقدية.
وبالتالي ارتفاع سعر الصرف بشكل مستمر يؤدي بالضرورة إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات وتآكل القدرة الشرائية للمواطن.
الحل يكمن في إدارة الأزمة عبر سياسات اقتصادية متناغمة بين مختلف الجهات، ومتابعة مستمرة للتغيرات بشكل يومي لحماية المواطن والاقتصاد معًا.
السؤال الثاني: حول أسعار السلع الأساسية
لاحظنا ارتفاعاً حاداً في أسعار المواد الغذائية الأساسية رغم ثبات نسبي في بعض مؤشرات السوق، ما الأسباب الحقيقية خلف هذا الارتفاع؟، وهل هناك غياب فعلي للرقابة على الأسواق والتجار؟
محمد درميش:
الثبات النسبي الذي يُشار إليه في السوق غير حقيقي. فالتغيير في سعر الصرف من 4.80 إلى 5.56 مع إضافة الضريبة أسهم في ارتفاع الأسعار بشكل ملحوظ. غياب أدوات الدولة لحماية المستهلك سمح بتغوّل السوق وترك المواطن تحت رحمة التجار.
وعليه، أي ارتفاع في الدولار يقابله ارتفاع طبيعي في أسعار السلع والخدمات، والسبب الرئيس هو ضعف الرقابة وغياب سياسات اقتصادية واضحة.
السؤال الثالث: عن الرواتب والدخل
هل تعتقدون أن منظومة الرواتب الحالية قادرة على مواكبة غلاء المعيشة والتضخم المستمر؟، وما الحلول التي يمكن أن توازن بين مستوى الدخل والتكلفة اليومية للمواطن؟
محمد درميش:
الرواتب الحالية غير قادرة على مواكبة الارتفاع المستمر للأسعار. نحن بحاجة إلى إعادة هيكلة منظومة المرتبات بشكل عادل، بحيث يكون هناك حد أدنى، وأعلى يتراوح بين 3000 و6000 دينار. هذا التوازن يخفف من الفوارق ويحافظ على القدرة الشرائية. كما يجب أن تترافق زيادة الرواتب مع إصلاحات اقتصادية شاملة لضبط الأسعار والحد من التضخم.
السؤال الرابع: حول السوق الموازية والسياسة النقدية
إلى أي مدى تؤثر السوق السوداء للعُملة على الاستقرار الاقتصادي في ليبيا؟، وهل ترون أن لدى مصرف ليبيا المركزي القدرة، أو الإرادة لاتخاذ إجراءات فعلية لضبط هذه السوق وتحقيق سعر صرف عادل؟
محمد درميش :
السوق الموازية هي العامل الأبرز في زعزعة الاستقرار الاقتصادي. لكن المشكلة الحقيقية تكمن في أن مصرف ليبيا المركزي ما يزال بعيدًا عن الواقع. المطلوب توحيد الجهود بين السياسات المالية والتجارية والنقدية، ووضع خطة استراتيجية لإدارة الأزمة بمتابعة يومية للتغيرات، وتنظيم التجارة وضبط الإنفاق مع الاستمرار في المشاريع التنموية.
محمد درميش :
ليبيا ليستْ دولة فقيرة، أو تعاني من شح الموارد، بل تعاني من غياب حسن الإدارة. تكرار نفس السياسات الاقتصادية كل بضع سنوات يضر المواطن والاقتصاد والدولة، بينما يربح بعض الأشخاص عبر صفقات لا تخدم الاقتصاد الوطني. الحل يكمن في إدارة رشيدة وقرارات اقتصادية متوازنة، بعيدًا عن الحلول المؤقتة التي أثبتت فشلها.
خلاصة القول .. الدولة الليبية دولة لا تعاني الشح في الموارد والأموال تحتاج إلى حسن إدارة فقط ولا نحتاج للحلول متكرَّرة يخسر فيها المواطن والاقتصاد الليبي والدولة ويربح فيها شخوص صفقات كل ثلاث أربع سنوات الطريقة نفسها يحصلون على مكاسب بعشرات الملايين دون بذل جهد ودفع ضرائب وقيمه مضافة للاقتصاد الوطني
الأزمة الاقتصادية في ليبيا ليستْ قدرًا محتومًا، ولا نتيجة نقص في الموارد، بل هي ثمرة سياسات مرتجلة وغياب الإدارة الرشيدة. فبينما يتقلب الدولار في السوق الموازي، يزداد العبء على المواطن الذي وجد نفسه عالقًا بين ضعف الدخل، وارتفاع الأسعار.
يبقى الحل مرهونًا بقدرة الدولة على توحيد السياسات المالية والتجارية والنقدية، وإعادة هيكلة منظومة الرواتب بشكل عادل، مع تفعيل الرقابة الصارمة على الأسواق .. فالمواطن الليبي لم يعد يحتمل مزيد الضغوط، وأي تأخير في اتخاذ قرارات جادة قد يفاقم الأزمة ويقوّض ما تبقى من ثقة في النظام الاقتصادي.