في آخر زيارة لها كانت ليستْ بالبعيدة 2009… مازلتُ أتذكر تفاصيلها .. وجو من التوتر قد ساد بيننا في مطار طرابلس العالمي بعد أن قرأنا في صحيفة )الشمس( في الصفحة الأخيرة تهديدًا ووعيدًا لمن يذهب إليها ويشارك في فعالياتها الثقافية بإشراف جمعية )بيت درنة( الثقافي تحت عنوان ” )المجتمع المدني في ليبيا، تجربة وآفاق”(…
لكنَّنا ذهبنا، كان الأساتذة يوسف الشريف والأمين مازن، وحسين المزداوي وعمر الككلي، وكنا حواء القمودي ونهلة الميساوي وسعاد سالم وأنا.. وبالتأكيد آخرين لم تُسعفني الذاكرة على تذكرهم، ومنهم من التحق بنا لاحقًا كالأستاذ محمد العلاقي .. لم نتحدث في شأن المقال، وتحدثنا وكأن شيئًا لم يكن.. حطت بنا الطائرة في مطار «الأبرق» ووجدنا أهلنا في استقبالنا وأولهم د. نجيب الحصادي والأستاذ سالم العوكلي… انطلقنا إليها.. ها هي درنة تلوح لنا في الأفق.. ها هم أهلنا من كل ليبيا يجتمعون تحت مسمى واحد” المجتمع المدني في ليبيا” في مجتمع درنة المدني، بـ)دار الأسطى عمر( بأحد ازقتها العريقة.. ها أنا في احدى فنادقها المطلة على البحر، وأتنزه صحبة المستشارة الدرناوية الأصل صديقة الأسرة الأستاذة نعيمة جبريل وتحديدا في زقاق جبريل.. هاهي أسرة درناوية تفتح لنا أبواب منزلها في المدينة القديمة لندخل ونرى البناء القديم الشبيه ببناء مدينة طرابلس القديمة.. السقيفة المفتوحة والدالية… دارت ايام المهرجان بمحبة وجمال وثقافة عالية.. أكاديميون وناشطون وأدباء وصحفيون و محامون ومسرحيون وموسيقيون وشعراء فصحى وشعبي.. كلهم شكلوا طوق مقاومة دون أن يدروا ولم يستطع احد ايقاف الفعاليات رغم التهديد والوعيد.. اكتظت القاعة في يومها الأخير بسكان درنة وبرز وجود النساء على وجه خاص.. ووجدت صديقاتي الدرناويات اللاتي لم التق بهن منذ زمن الدراسة في بنغازي.. تعانقنا وتسامرنا وضحكنا في فناء مقر الدار.. اختلست بعض الوقت صحبة الاستاذ عمر الككلي والاستاذة نعيمة جبريل ليرافقنا احد المنظمين للفعالية درناوي من عائلة سرقيوة على ما اتذكر- في رحلة الى رأس الهلال وسوسة وشحات… جمال، ابهار.. تأثرنا من رؤية اشجار الصنوبر المحروقة بسبب قمع الحركات الاسلامية .. لكننا لم نشعر بوجودها إلا في موقف واحد داخل أزقة المدينة القديمة.. كنا قد خرجنا من منزل الاسرة الدرناوية بعد أن اطلعنا على المعمار فيها، فصادفنا شاب يرتدي الزي الليبي لكن ازاره قصير بشكل واضح.. ما أن رآنا حتى صرخ في وجهينا بصوت عال وغطى بيديه وجهه.. استغربنا وواصلنا المسير الى دار الاسطى عمر حيث الاحتفائية.. لم يخطر ببالنا حينها أنهم سيغطون وجه المدينة بأكملها ولانرى إلا وجوههم…
أجمل لحظات هي تلك التي سرنا فيها على أقدامنا في شوارعها.. كلنا .. كل الضيوف معا.. على الأقدام في شوارع درنة تضللنا أشجارها وورودها، ورأينا عربات الخضار وأربطة الحبق والنعناع والشبت والمعدنوس في خضار لم اره في حياتي… هكذا فهمت لماذا “البراك ” الدرناوي له مذاق خاص يختلف عن كل ليبيا… الجمال الدرناوي، والاناقة الدرناوية، والطبخ الدرناوي… والعقول الدرناوية النيرة والتعليم والدبلوماسية ورجالات الدولة….
وفي آخر يوم من أيام المهرجان، إتجهنا جميعا إلى المسرح بدرنة.. هناك احتضنتني مرحبة إمرأة من درنة وسألتني انت إبنة ابلة سهير الغرياني؟ أجبت بنعم.. فأخذت تحضنني وتقبلني وتقول والدموع تغالبها.. هي مديرتي، أنا كنت احدى الطالبات من درنة اللاتي درسن في معهد الخدمة الاجتماعية بطرابلس في أوائل الستينيات وبقين في داخلي المعهد… نحن الدفعة التي أسست الخدمة الاجتماعية في درنة.. لإزاء هذا الجمال والترحيب والوشائج والصلات… في حضرة كل هذا الجمال.. حضرنا مسرحية رائعة لفرقة مسرح المرج.. فنا راقيا ونظاما ورسالة وتمثيلا وديكورا .. حضرت في درنة جمال الطبيعة وجمال الروح والثقافة والفن والمسرح… تلك الروح المقاومة لتصحر وبطالة واضحة وحالة اقتصادية رثة.. كنت أرى الروح الجميلة وأرى الواقع الأليم… وكيف تصمد الروح في جسد عليل… لكنها عادت… تركوها وحدها اسقطوها من حساباتهم جميعا… والآن هناك من يحاول استغلال حتى روحها بخطب سياسية جوفاء، قبل أن تتسرب إلى كامل جسدها وتنهض جميلة الشرق بقبلة حارة من أهلها وناسها… وحتى زيارة قريبة لكل الأصدقاء… لا نملك إلا قلوبنا ونبضنا معكم ايها الدراونة الأعزاء ….