
عندما يتحول الطب .. إلى ورقة منسية
لم يكن مرعي يحلم برؤية البحر، ولا بركوب الطائرات، ولا حتى بتذوق قهوة في عاصمة أوروبية، كل أحلامه كانت تختصر في مشهد واحد: أن يرى ابنه الصغير سالم واقفًا على قدميه من جديد.
لكن.. سالم لم يسلم من اغتيال أحلامه الصغيرة.
قال الأطباء: «العلاج موجود… ولكن في الخارج».
ابتسم مرعي وقال: «الحمد لله… إذن هناك أمل».
غير أن الأمل في بلادنا يحتاج أن يملأ استمارات، ويقف في طوابير، ويبيت في الممرات، ويشيخ وهو ينتظر، فإذا لم يمت من المرض، مات من طول الانتظار.
كانت المحطة الأولى: مكتب العلاج بالخارج.
جلس مرعي على كرسي مهترئ، يراقب الملفات وهي تتنقل من مكتب إلى آخر، ككرة قدم في مباراة بلا حكم.
كلما دخل على الموظف، قيل له ببرود:
«ملفك تحت الإجراء».
وتحوّلتْ كلمة «الإجراء» في قاموس مرعي إلى قارة مجهولة لم يكتشفها أحد، الوصول إليها يتطلب تأشيرة وواسطة ومعجزة.
الأسبوع الأول… اللجنة لم تجتمع.
الأسبوع الثاني… الميزانية لم تُعتمد.
الأسبوع الثالث… الأوراق ينقصها ختم.
وفي الأسبوع الرابع… رأى ملف «زيد» و»عبيد» وقد خرج بتذاكر سفر وفنادق وعلاج مدفوع بالكامل، بينما سالم… يتألم على سريره.
أخذ مرعي يسمع حكايات أقرب إلى الخيال:
ملف استُخدم لرحلة مسؤول إلى جزر «المالديف»، وآخر اشتروا به ساعة لابن مسؤول، في معصمها ألماس يكفي لتمويل جناح كامل لمرضى الأورام.
وقف مرعي أمام الموظف وقال:
«يا سيدي، هذه حياة طفل… ليست رحلة شهر عسل!»
ابتسم الموظف ابتسامة باهتة وقال:
«الإجراءات واضحة… لكنك تحتاج موافقة خاصة».
والموافقة الخاصة… كلمة سر لا تكتب في أي قانون، لكنها محفورة في ذاكرة كل مواطن: واسطة، نفوذ، أو صلة دم بالمتنفذين.
عاد مرعي إلى بيته، جلس قرب سالم وهو نائم، يحاول أن يخفي دموعه، وهمس:
«الحق… صار مثل الهواء النقي، نسمع عنه ولا نشمه، والباطل يركض أمامنا، يضحك، ويقول: سأقهرك».
وفي آخر الليل، كتب في دفتره:
«في بلادي، لا يُعالج المريض بالدواء، بل بالمحسوبية. والمواطن البسيط… عليه أن يصبر، أو يكتب وصيته قبل أن يُكتب اسمه على أي قائمة علاج».
ثم رسم كرة قدم صغيرة، وكتب تحتها:
«هذا أنا وملفي… كلما اقتربنا من المرمى، ركلونا إلى ملعب آخر، والنتيجة دائمًا: صفر – صفر».