(سي البينو)
درنة المدينة الزاهرة، سليلةُ الماءِ، ومهدُ التاريخِ، بين أعراف أوابدها المطلِّة على البراري الشاسعة مراقد الشموس، وآفاق البحر المسكونة بزرقة السماء تتكئ الزاهرة مدلَّلة الزمان، لا تظمأ ولا تجوع، ملاذ الخليقة الأولى من كل حدبٍ، ولونٍ، ولسانٍ، هبة الشلال، يذكرها التاريخ بما قبله من غوابر الزمان، سبقتْ حضارات وعاصرتْ حضارات، أثرتْ، وتأثرتْ بحضاراتٍ لم يغادرها التاريخُ يومًا، فظلتْ أيقونةٌ للعنادِ المعرفي للانتصار على آفة النسيان، رغم قساوة بعضٍ من مراحل مقاومتها للخواء الذي طالما ناصبها عداءه التاريخي.
خصبة العقول والصعيد، ذكرها أبو التاريخ «هيرودوتس»، بمرفئها البحري، ومائها العذّب الذي يجري بين فلقتيها، عامرةً بالإنسان، والكهوف، والوهاد، والخضار، ومعابد قديم الديانات، تشع بأنواع حضارتها كمدينة أسسها الأولون لتعمر بالآخرين.
تزخر بأعلامٍ، وشخصيات سجلتْ حضورها في ميادين شتى، فصرفتْ الوقت، وبذلتْ الجهد، وجادتْ بالدم، لأجل إيقاد شموع تنير سبيل من هم على الدرب.
إزاء هذه التضحياتُ، وهذا التفاني كان لزامًا علينا أن نسطر صحائف من وفاءٍ، ونستذكر هؤلاء النبلاء الأفاضل، ولينهل من معين تجاربهم الأجيال، وليواصلوا من بعدهم الخطى.
هي محاولة لنشر ومضات من حياة أولئك الأعلام، بما توفر لنا من إمكانات، لأن الحصول على معلومات أصبح شيئًا صعب في ظل اللامبالاة من البعض، خاصة في غياب الوثائق.
استذكر في هذه الأيام الحاج «أنور الحصادي» الملقب بـ«سي البينو»، قيّم جامع «الدرقاوية»، وأحد أعلام مدينة درنة الزاهرة، طلبَ القرآنَ وعلومه صغيرًا، ونذر حياته لخدمة الإسلام والمسلمين كبيرًا، فحفظ القرآن الكريم في سن مبكرة، وتتلمذ بعد ذلك طلبًا للعلم على مشايخ، ليأخذ منهم العلمَ الذي ما برح يصدح به، فنفع الله به وبعلمه، وتأثر به الكثيرون، وبالذات أولئك الذين لازموه وعرفوه عن قرب في المدينة الزاهرة.
سي «البينو» من مشايخ مدينة الزهر والنَّوار، الذين بذلوا جهودًا جبارة في سبيل إعلاء كلمة الله، بذل العمر، وأفنى الأيام في سبيل هذا الهدف السامي لأعوام عدة، في زمن اختلط فيه الحابل بالنابل، فكان الشيخ أنور أحد رواد هذا الزمن في أسمى وأطهر الأماكن، كان حريصًا على الأوقات، لا تفوته صلاة واحدة، مرابطًا في كل الصلوات قبيلها وبعيدها في جامع «الدرقاوية». يوجد هذا الجامع وزنقة «الدرقاوية» بشارع المأمون بـ «البلاد» المدينة القديمة.
يقول أصيل مدينة الزهر والنّوار الأستاذ حامد يحيى الحاسى:
كان المكانُ في العهد العثماني «حمام»، وكان المبنى ملكًا لعائلة بدر، ترك بعدها المبنى، وبقي مهجورًا، حتى أتى إليه الحاج سالم الثلثي رحمه الله، وهو شيخ الطريقة «الدرقاوية» بمدينة درنة الزاهرة، وسميت هذه الطريقة «الدرقاوية»، نسبة إلى الشيخ الدرقاوي القادم من المغرب، وأصبح المكانُ سكنًا لأسرة الحاج سالم الثلثي، ومقرًا للطريقة الدرقاوية الزاوية «الدرقاوية»، وبعدها انتقلتْ هذه الزاوية إلى الجامع العتيق، وتحوَّل المقر إلى جامع تقام فيه الصلوات الخمس ما عدا خطبتي وصلاة الجمعة، وبعدها بمدة تم ضم قطعة أرض بجانبه وتمت توسعة المكان وتحوير المبنى ليكون مسجدًا كبيرًا، وسمي وقتها بجامع سيدنا الحسن عليه السلام، وكان بجانبه حوش لتحفيظ علوم القرآن، وكان المحفّظ رجلٌ كفيف البصر اسمه الحاج عوض الماجري، رحمه الله تعالى.
قبل أحداث 17 فبراير 2011م بسنوات قليلة هدم الجامع، وشيد مكانه جامعٌ جديد، وعندما حدثتْ فتنة الحرب اللعينة في المدينة تضرَّر كثيرًا، وتلاشت الكثير من معالمه، كغيره من مباني المدينة القديمة التي كانت رمزًا لإرث أثري عتيق، وبقي ركامًا خاويًا على عروشه، وطُمِستْ واختفت حضارةٌ، وتاريخ مدينة بأكملها، فلم يتركوا هذا المبنى يتعايش مع التراث.
ويستذكر الأستاذ حامد سكان زنقة «الدرقاوية» في بداية الخمسينيات، آل الماجري، وعائلة المبروك بن حليم، والعرق، وآل عبدالسلام بن طاهر وأخوته، وآل مكراز، وآل بوعلي، وآل التاجوري، وآل محمد الدلال، وآل الجملي، وآل كريمش سرقيوة، وآل الحاج عبدالغني استيتة، وآل جابر الطرابلسي.
ومَنْ مِنْ أهل درنة الزاهرة لا يعرف سي «البينو»، الرجل الذي تميز بنضوجه المبكر، وشخصيته المرحة، وذكائه الحاد، وفطنته الشديدة، حتى قيل إنه لم يُرَ مرةً في حياته وهو عابسُ الوجه، أو مستاءٌ من أحد، أو غاضبٌ من موقف ما، بل كان يُشاهد وهو مبتسمٌ، يمازح هذا، ويشاكس ذاك، كان معروفًا ببحة صوته الرنان المَّميزة، وكل سكان «البلاد»، وسط المدينة يعرفون نبرة صوته من مسافات طويلة جدًا؛ فعندما يُرفع الأذانُ في وسط المدينة القديمة يسمعوه ويميزوه في )حي المغار، وشارع الفنار(، وحتى ذيل الوادي، والجبيلة، فقد اعتاد سكان البلاد على صوته المميز.
فإذا أخذتكَ دروب المدينة القديمة وولجتَ شوارعها، ستلقاه هناك أمام جامع «الدرقاوية»، في شأن من شؤون حياته اليومية المعتادة مهتمًا بالجامع، أو تراه جالسًا على مصطبته يتحدث مع المارة والجيران، ولا يخلو الأمر من مزاح ومكايدة طريفة بريئة، فهو صاحب ظل خفيف، ودائمًا ما يتندر بالطرفة «النكتة» التي لا تخطر على بال، ومن الطرائف التي كان يقوم بها عندما كان قيم جامع «الدرقاوية»، حيث كان يخرج بعد أذان صلاة المغرب في أيام شهر رمضان للسكان القريبين من الجامع، ويقول لهم وهو مبتسمٌ بلهجته الدرناوية:
)هيا نغنغوا، اليوم أذنت لكم قبل دخول الوقت بيش تبردوا على رواحكم بدري بدري(، بالطبع كان سي «البينو» يمزح كعادته مع النَّاس، فهو من أحرص النَّاس على حُرمة الدين.
عاش سي «البينو» زاهدًا بالمعنى الشامل للكلمة، فلم يتزوج، ولم يطمع في دنيا، وسخّر حياته لخدمة بيت الله، فلا تراه إلا عند ذلك الزقاق متواريًا عن صخب الدنيا.
سي «البينو» .. قصة رجل عظيم تذكرها المدينة في أزقتها العريقة، تعلّق قلبه ببيت الله، فكان لا يغادر جامع «الدرقاوية» وسط المدينة القديمة، وعندما أخرجته منه هيئة الأوقاف، لاذ بجامع الرشيد بحي المغار، وعندما حدثت فتنة الحرب وأغلق هذا الجامع، صان قلبَه بجامع الفتح، وعندما اجبر على مغادرة جامع «الدرقاوية»، وجدوا في مخزن الجامع مواد تنظيف من صابون اليدين، مسحوق صابون التايد للملابس، وصابون سائل، ومطهرات للأرضية وللحمامات، محتفظًا بها داخل الجامع، لم يستخدمها لأغراض شخصية.
لكن عندما تعرضت مدينة درنة لسيول، وأمطار جارفة من تأثير الاعصار Daniel المصحوب بسقوط أمطار غزيرة سببت فيضانات أغرقت العديد من الشوارع، وأضرت بهذه المدينة وسكانها، واجتاحت مياه الوادي بيوت وشوارع المدينة ودمرت كل شيء في طريقها، بل وابتلعت ثلاث مناطق كبيرة بالمدينة )منطقة وسط البلاد، منطقة الجبيلة، منطقة ذيل الوادي( والشوارع المتفرعة منها، هذه الكارثة الطبيعية، اجبرت سي «البينو» كغيره من سكان سليلة الماء إلى ترك مكانه المعتاد.
وهنا أغلق ملف سي «البينو» في الأرض، ليفتح أمامه بإذن الله نعيمٌ آخر في عليين، ووجد في جامع الفتح تعزية ورثاء، حتى واراه الثرى في صبيحة يوم الفاجعة، )إنا لله وإنا إليه راجعون(.
بإذن الله تعالى ستعود مدينة درنـة الزاهرة، وتزهر من جديد بهمّة أهلها، بكل شيبها وشبابها، وستحيا مجدّدًا بعزّة رجالها ونسائها، وحتى أطفالها، وستبقى درنـة وأهلها دائمًا في قلوبنا، ولن تغادرنا أبدًا.
وداعًا سي«البينو»، قيم )الدرقاوية(، وزاهد المدينة الزاهرة.