من فترة أنهيتُ كتاب (ذكرياتي .. نصف قرن من الأحداث الاجتماعية والسياسية)، وهذا هو العنوان الصحيح للكتاب كما نبهني المهتم بالوثائق الليبية والمهموم بمدونة سيرتها الكاتب (حسين المزداوي) بملاحظته ليَّ بأن خطأ مطبعيًا لحق بعنوان طبعة الصدور فجاء على غلافها بصيغة (ذكريات) ..
الكتاب صادر عن دار جهاد الليبيين ..
أما الكاتب فهو (الهادي إبراهيم المشيرقي ) وهو من عائلة لها تاريخها السياسي والاقتصادي بليبيا .. إلى جانب دورها النضالي ..
والكاتب بدأ بسرد ذكرياته هذه منذ بدء الاحتلال الإيطالي لليبيا .. لكنه أسهب أكثر في الحديث (وهذا ما رويت به عطشي) عن فترة خسارة المحور للحرب العالمية الثانية واستلام دول الحلفاء للبلد .. وكيف شهدت هذه الفترة بداية ظهور السياسة بما لها وعليها على الساحة الليبية .. وبالتالي ظهور أول الكيانات السياسية بها .. وأسهب أيضا في الحديث عن سلسلة العلاقات والتي كان طرفًا فاعلًا فيها .. وعن التحام أهل الداخل من الأهالي والمجاهدين وأبناء المجاهدين مع إخوانهم المناضلين المهجرين قسرًا زمن الاحتلال الايطالي إلى دول الجوار .. وتحدث عن عودتهم لأرض الوطن بعد هزيمة ايطاليا الفاشية في الحرب .. وكيف بدأ هؤلاء جميعا في العمل على توحيد الصف ورأب الصدع وتوحيد الكلمة .. عمل جاد على البنية الاجتماعية في ليبي أدت نتائجه إلى هيكلة مجموعة من النخب الليبية ..نتج عن تناغم العمل فيما بينها تشكيل وفود للعمل الدبلوماسي .. خاضت وعلى فترات متتالية مفاوضات مع كل الأطراف الخارجية .. والمعنية بالشأن الليبي حينها .. حتى نجحت أخيرًا في انتزاع استقلال ليبيا من منظومة الأمم في 24/12/1951 ..
جاء في الكتاب :
أن ليبيا في هذه الفترة كانت تمر بفترة حرجة … فهي لتوها خرجت من ضيم عقود طويلة من الحرب على الفاشية .. ومن جحيم حرب عالمية ثانية .. حربين نتج عنهما الكثير من المآسي .. أهمها نسبة الأمية الكبيرة التي كان يغرق فيها أهلها … زيادة على الوضع الاقتصادي المتردي لهم .. أما الوضع الصحي والاجتماعي فقد كان يلامس الكارثة ..
أما سياسيا :
فقد كان على الأرض إضافة للسرب الوطني للمكافحين من أجل نيل الاستقلال .. الكثير من الفصائل والآراء السياسية التي غردت حينها بعيدا عن الإجماع الوطني .. فهناك حزب نادي بأن ليبيا لا استقلال لها وعليها أن تذوب في مصر حزب كان تقريبا يتكون من شخصين وطاولة وفنجان قهوة يفيض بأعقاب السجائر .. وهناك أيضا دعاة التقسيم الكامل والدائم للبلد لا لشيء إلا لغرض التقسيم .. وكان الأنكى والأشد أن هناك من تحالف مع الأحزاب الإيطالية والتي شكلها ( المستوطنون ) والتي تنادي بتبعية ليبية لإيطاليا..
هكذا كانت هي الأوضاع التي اشتغل عليها ومن خلالها رواد العمل السياسي بليبيا بالداخل الليبي ..
أما خارجيا :
فقد كان هناك صراع كبير وتدخل خسيس .. مباشر وغير مباشر من العديد من الأطراف في الشأن الليبي .. بداية من تركيا ( والتي كان دورها ركيك على مر التاريخ الليبي) فلقد جهّلتنا لقرون طويلة قطّعت فيها الرؤوس مقابل ميري النعجة ( ضريبتها ) .. وبعد قرون من الضيم تركتنا عند أول شاطئ واجهنا فيه الطليان وحين احتاج الليبيون لموقفها بهيئة الأمم ( زمن مناورات الاستقلال) .. كان دورها صادما ( ليس ركيكا هذه المرة ) .. فقد التزمت بالموقف الايطالي والداعي لتبعية ليبيا لإيطاليا .. ومن دول الجوار مثلت مصر والجامعة العربية (الناشئة أيضا ) الحضور العربي على طاولة استقلال ليبيا والذي ضغط بشدة في اتجاه اقرار تبعية ليبيا لمصر .. أيضا كانت هناك ( ايطاليا ) نفسها وقوة مستوطنيها على الأراضي الليبية وأحزابهم فيها ..
أما عن الدول العظمى (المنتصرة بالحرب: بريطانيا .. امريكا .. روسيا ) فحديث طويل ويفيض بالحرج .. فقد كانت هذه الدول تقسم غنيمة حرب بنهاية ذرية .. وكنا قسمة صادف أن دعمتها الجغرافيا ..
فقد كان هم هذه الدول أن تجعل حدود تماسها آمنة للمستقبل الذي سيخوضه العالم في حربه الباردة .. والتي كانت هذه المفاوضات بداية شرارة اندلاعها .. ولان الصراع كان على اشده بين هذه الدول لذا جاء مقترحهم بمشروع الوصاية على ليبيا ..
لكن هؤلاء المؤسسين ( نواة العمل السياسي والديبلوماسي الليبي ) وبحضورهم القوي بمنظمة الأمم استطاعوا إفشال هذا المشروع والخروج بقرار الاستقلال ..
نعم مع كل هذا الضغط (الداخلي والخارجي ) نجح رواد العمل السياسي بليبيا حينها .. في العمل وعلى المستويين الداخلي والذي اعتمدوا مبدا المرونة فيه .. والخارجي والذي كان مبدأ تعاملهم فيه هو تصلبهم ووقوفهم صفا لرفض أي تدخل خارجي اخر على ارضهم بعد تجربة مريرة وطويلة مع المقاومة .. نجح هؤلاء بالزي الوطني لأغلبهم .. ومع انعدام الخبرة بالعمل السياسي لمعظمهم كانوا موفقين ومتوافقين فيما بينهم في تخطي كل العقبات وتجاوزها سريعا في اتجاه ليبيا واحدة حرة ومستقلة .. لم يقيدهم أي خلاف من مثل جمهورية أم ملكية أو شرقية أو غربية .. أو هل ننتقم أو نتجاوز ..؟ .. لم يقيدهم أي عنّد و لم يعيق طريقهم أي تصلب شرايين آنذاك كان الهدف عندهم أسمى من أي خلاف …
اتفق كل هؤلاء حينها ( رغم تعدد وجهات النظر بل وتضادها أحيانا ) على أن ليبيا سيدة الجميع .. هي الأرض التي يقفوا عليها .. وهي الأفق وحد النظر ..
وتنازل الكل .. تغيرت أوراق وتمزقت مطالب وزال الخلاف والاختلافات .. لأجل أن تسود ليبيا .. وتخفق رايتها في مجمع الأمم كأي دولة حرة مستقلة .. الديمقراطية دربها للتخلص من أوحالها وحل خلافاتها .. وفتح طريق للعلم كي يمر أولادها ويصنعوا بأيديهم مستقبلها .. وهذا ما كان بأيديهم حينها وناضلوا لأجله بأرواح ابائهم ودماء اخوانهم واولادهم طويلا قبل ذلك … وحين احتاج الأمر للحكمة والتدبير كانوا هناك
بحسن سياستهم حتى انتزعوا استقلال ليبيا في 24 /12 /1951 ..
أنهيت كتاب سيرة ( المشيرقي ) .. وأنا بليبيا زمن التردي العظيم في كل شيء، أنهيته وانا أتساءل :
أين نحن من كل ذاك الآن ..؟..
أين نحن من أولئك الكبار ..؟ ..
أين نحن من حسن السياسة والتدبير ..؟ ..
أين ساستنا الآن ..؟..
أين نخبتنا ..؟ …
وأين أهل الحكمة فينا ..؟..
أنهيت الكتاب وأنا أقارن متصدري المشهد السياسي في ليبيا الآن .. بأولئك الكبار الذين أهدونا ( ليبيا ) وعلى طبق من ذهب .. !!!!
فلم أجد مجالا للمقارنة بين من كان الوطن هدفهم .. وبين من كان سرقة الوطن والمتاجرة بدم ابنائه وقوت اهله هدفا لهم ..!!!!
لم أجد مقارنة نهائيا وإن تشابهت بعض الظروف ..
لكن العبرة عادة بالنتائج ولأن الاولين أهدونا وطن بالنتيجة .. ضيع المحدثين من اشباه ساستنا عشاق ( السيلفي ) والكاميرات والمذهولين بالموائد المستديرة وارتداء ربطات العنق ..