
في مجتمعٍ يتغنّى بالقيم الأسرية ويعد الزواج رباطًا مقدّسًا لا يُفكّ بسهولة، بدأتْ ظاهرة جديدة تدقّ ناقوس الخطر «الطلاق المبكر».
زواج لا يصمد لأشهر، وأحلام تنكسر قبل أن تكتمل، وحكايات حب تنتهي بخلافاتٍ حادّة، وأوراق محاكم، في مشهدٍ يتكرّر يوميً ..
لم يعد الطلاقُ حكرًا على العلاقات القديمة، أو الخلافات المستعصية، بل أصبح حاضرًا بقوة بين زواج حديث يُفترض أن تكون أكثر وعيًا، وانفتاحًا.
فما الذي يحدث؟!
هل تغيّرتْ مفاهيم الزواج في مجتمعنا؟ أم أنَّ الضغوط الاقتصادية وتغير نمط الحياة سلبتْ الزواج قدسيته واستقراره؟
بين قصص واقعية لشباب وشابات لم يُكملوا عامهم الأول من الزواج، وآراء مختصين في علم النفس، والاجتماع والقانون، نحاول في هذا التحقيق كشف خيوط هذه الظاهرة، والبحث عن الأسباب العميقة وراءها، والسبل الممكنة لإنقاذ ما تبقّى من صورة الزواج في المجتمع الليبي.
فهل أصبح الزواج حلمًا صعب المنال… أم تجربة قصيرة العمر؟
تقول سرور:
تزوجتُ عن حب، لكن بعد الزواج اكتشفتُ شخصية مختلفة تمامًا. لم يتحمل المسؤولية، وكان دائم الانتقاد. تدخل الأهل زاد الطين بلة، وكل مشكلة صغيرة كانت تكبر. حاولتُ الإصلاح لكن ما فيش تفاهم، وانتهى الأمر بالطلاق بعد أقل من سنة.
هداية تقول :
تعرفتُ عليه عبر «الفيسبوك»، وكل شيء كان سريعًا. الخطوبة كانت قصيرة، والزواج تم بسرعة. بعد الزواج اكتشفنا أننا مختلفان تمامًا في التفكير والقيم. ما قدرناش نكمل، وكانت النهاية بعد خمسة شهور.
محمود يقول :
أنا نحب مراتي، لكن الوضع المعيشي كان صعبًا جدًا. الإيجار، المصاريف، قلة العمل، صارت مشاكل يومية. حتى أبسط الأمور كانت تولّد خلافات. في النهاية، ما قدرناش نواصلوا.
عائشة موظفة :
نشوف إن السبب الرئيس هو التسرّع. البنات والشباب يتزوجوا بدافع العاطفة، من غير ما يعرفوا بعض كويس. وبعدين تبدأ الصدمات بعد الزواج.
مسعود - سائق:
الحياة صعبة، والظروف الاقتصادية خانقة. لما الواحد ما يقدرش يوفّر حاجات أساسية، طبيعي تصير مشاكل توصل للطلاق.
حميدة - ربة بيت:
وسائل التواصل الاجتماعي خربت العلاقات. كل واحد يشوف حياة الناس ويقارن، وتبدأ المشاكل من ولا شيء.
عبدالسميع – معلم:
في الماضي، الزواج كان مسؤولية، واليوم صار مظهرًا اجتماعيًا. العرس، الذهب، الفرح، كلها مصاريف تخلي الزواج عبء مش راحة
هند – طالبة جامعية:
لازم يكون فيه توعية قبل الزواج، زي دورات إلزامية. مش كل حد يعرف شنو معنى زواج وشراكة.
د.أسامة الشارف:
الطلاق المبكر غالبًا ناتج عن غياب الوعي النفسي قبل الزواج. كثير من الأزواج يدخلون الحياة الزوجية بعقلية رومانسية دون إدراك حجم المسؤوليات، والتحديات الواقعية.
أيضًا، ضعف مهارات التواصل، والتمسك بالرأي، والاعتماد على الأهل في كل خلاف، يؤدي إلى تفاقم المشاكل بدل حلها.
الحل يبدأ بالتأهيل النفسي قبل الزواج، وتعليم الشباب مهارات الحوار والتفاهم .
أ. غفران الطرابلسي:
الزواج اليوم لم يعد كما كان. الضغوط الاقتصادية، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعي، وتراجع دور الأسرة في التوجيه كلها عوامل تجعل الزواج هشًا .. البعض يدخل الزواج بدافع المظاهر الاجتماعية أو الهروب من الوحدة، دون وعي حقيقي بمعنى الشراكة والمسؤولية .. نحتاج إلى برامج توعية مكثفة في المدارس والجامعات عن الحياة الزوجية ومهاراتها.
يشرح المحامي محمد الفيتوري «مختص في قضايا الأحوال الشخصية»:
نسبة كبيرة من القضايا في المحاكم اليوم تخص الطلاق المبكر. كثير من العقود تُبرم دون شروط واضحة، أو وعي بالحقوق والواجبات.
بعض الأزواج لا يعرفون حتى حقوقهم القانونية، ما يؤدي إلى نزاعات طويلة بعد الطلاق.
نحتاج إلى تفعيل دور المأذون في توعية الطرفين قبل الزواج، ووضع برامج إلزامية للتأهيل الزوجي، كما هو معمول به في بعض الدول العربية.”
الطلاق المبكر ليس مجرد فشل علاقة بين شخصين، بل أزمة تمس استقرار المجتمع بأسره.
الحل لا يكون باللوم فقط، بل بوعيٍ مجتمعي جديد:
- إعداد الشباب نفسيًا واجتماعيًا قبل الزواج
- توفير فرص عمل واستقرار اقتصادي
- تشجيع الحوار داخل الأسرة
- تفعيل دور الإعلام والمؤسسات الدينية في التوعية، فالحب وحده لا يكفي، بل يحتاج إلى وعي، صبر، ومسؤولية ليصمد أمام اختبارات الحياة، فالطلاق المبكر لم يعد مجرّد نهاية لعلاقة زوجية، بل أصبح جرحًا عميقًا في جسد المجتمع الليبي.
زواج يبدأ بالأحلام الوردية وينتهي على عتبات المحاكم، بين أوراق قانونية ودموع خيبة، وبين رجال ونساء فقدوا الثقة في الحب والاستقرار.
في كل قصة طلاق مبكر حكاية مؤلمة: شاب ضاقت به الحياة فهرب بدل المواجهة، وفتاة اكتشفت بعد الزواج أن ما كانت تراه حبًا لم يكن إلا وهماً عاطفياً، وأسرتان تقفان عاجزتين أمام مصيرٍ لم يتوقعه أحد.
الواقع يقول إنّ الأسباب كثيرة، تتشابك بين ضغوط المعيشة وغلاء الأسعار، وتدخل الأهل، وتأثير السوشيال ميديا، وضعف الوعي النفسي والشرعي والاجتماعي لدى المقبلين على الزواج.
وبينما تتزايد أعداد القضايا في المحاكم، يبقى السؤال الأكبر: مَنْ يدفع الثمن؟!
الأطفال الذين يولدون في بيوت مكسورة؟!
أم شباب فقدوا الأمل في الزواج والاستقرار؟!
أم مجتمع بدأ يفقد ثقته في أقدس مؤسسة إنسانية؟!
إنّ مواجهة هذه الظاهرة لا تحتاج إلى لومٍ أو أحكام مسبقة، بل إلى مشروع وطني للتوعية، يبدأ من المدارس وينتهي عند مؤسسات الزواج، مشروع يُعلّم الشباب أن الزواج ليس حفلة زفاف، ولا صورًا على «الفيسبوك»، بل مسؤولية وصبرًا وتفاهمًا وشراكة حقيقية.
المطلوب اليوم ليس فقط قوانين تحمي الحقوق، بل وعي يصنع الاستقرار، وإعلام يقدّم قدوة صادقة لا قصصًا خيالية، ومؤسسات دينية، واجتماعية تكون حاضرة في التوجيه والمساندة لا فقط في لحظة العقد.