الغزالةُ قُصفَت بقاذف (آ.ر.بي جي) قبل ليلة اختفائها
التليسي :
من صممها تفوّق على نفسه في هذه المنحوتة
مِنْ بين معالم مدينة إطرابلس ميدانٌ صغيرٌ به نافورة Fontana della Gazzella بها تمثالان، هما تمثال )الغزالة، والحسناء(، يمثلان مشهدًا فنيًا لامرأة حسناء تمسك بجرة، وتعانق غزالة، وتسند ظهرها عليها، ونصب التمثال في ميدان عُرِفَ باسم)ميدان الغزالة(، الذي يعد من أهم الميادين، وأقدمها في مدينة إطرابلس، كونه مفترق للطرق في وسطها، وعلى مقربة من حديقة البلدية وفي مواجهة الكورنيش، وبالقرب منه يوجد فندق «الودان»التاريخي، والفندق «الكبير»، وميدانه، وفندق «انتركونتننتال»، وتتفرع منه عدة شوارع رئيسة.
يعودُ تاريخ تمثال )الغزالة، والحسناء( إلى مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، حيث انجز النحات الإيطالي Angelo Fanitti التحفة من البرونز، وقد تفوّق الفنان الإيطالي على نفسه في هذه المنحوتة المذهلة، وصفته الروائية فريدة المصري بأنه )حقَّق جوانب إنسانية، في بعده الفني، ودّل على النظرة الإيجابية المسالمة(.
هذه التحفةُ كانتْ حاضرةً بشكل كثيف في نصوص، وأعمال كتّاب، وفنانين طرابلسيين، كالقاص مفتاح قناو، الذي استحضرها في قصته )عودة القيصر(، يحكي قناو عن ذكرياته، هو وأبناء جيله، مع التحفة، وعلاقتهم بها: )في الطفولة والمراهقة، كنا نأتي إلى «الغزالة، والحسناء» بثياب العيد لنلتقط معها صورًا تذكارية قبل ذهابنا إلى السينما التي كانت مزدهرة في ذلك الزمن الجميل(.
وأضاف: )تذكّرني التحفة بـ مسرح الغزالة الذي شهد أجمل العروض المسرحية في إطرابلس، كما تشكل هذه التحفةُ العالمية جزءًا كبيرًا من ذكريات سكان إطرابلس الحقيقيين(.
بدوره كان الفنان التشكيلي مرعي التليسي رحمه الله، قد استحضر «نبع الحياة» في عدد كبير من أعماله، قال: )رسمتُ هذا التمثال في لوحتي الثلاثية إطرابلس(، إذ لم أجد ما قد يمثل إطرابلس، ويختصرها أكثر من هذا العمل الفني الفريد، الذي لو تأمّله الليبيون المتصارعون حالياً، لفهموا الحكاية، حكاية عناق البر مع البحر.
تاريخيًا، ومنذ أنّ نُصبَ التمثالُ لم يعترض أحدٌ على وجوده، باستثناء مرة واحدة، عندما نقلتْ )القناة الليبية( حضور معمر القذافي لإحدى جلسات «مؤتمر الشعب العام»، فتحدث أحد أعضاء المؤتمر، وخرج عن جدول النقاش، طالبًا من القذافي تدمير التمثال، لأنه لا يمثل سكان إطرابلس، بل يمثل حقبة الاستعمار، فنظر إليه القذافي باستغراب، ولم يرد عليه، وعاد لمناقشة جدول الأعمال.
لكن يوم 27 أغسطس من سنة 2012م أحدهم قصف التمثال بقذيفة RBG فأحدث حفرة في بطن الحسناء، وبالرغم من استنكار سكان إطرابلس لهذا العمل غير المسؤول.
صباح يوم 4 نوفمبر 2014 استيقظ سكان إطرابلس ليجدوا تمثال «الغزالة، والحسناء» قد اختفى، وقد أقتلع من مكانه، «في ليلة بلا قمر»، ولم يبقَ إلا حوض النافورة المزين بفسيفساء زرقاء، حتى الجرة التي كانت تمسك بها الحسناء اختفتْ، فمَنْ سرقه؟!، لأن سرقة التمثال تحتاج إلى آليات ضخمة، وإلى وقت طويل، والمكان به حركة، ومَنْ قام بهذه العملية يعرف قيمته التاريخية والمادية جيدًا، ربما يبيعه في السوق السوداء بملايين الدولارات.
قبل اختفاء تمثال )الغزالة، والحسناء(، فوجيء سكان إطرابلس وقد لُفّت كلياً بغطاء أزرق بلاستيكي محكم بحبال، كأنما لـستر الحسناء؛ لتصبح هدفًا في مدينة يبدو كل شيء فيها مستهدفاً، وليصل بها الحال إلى ما هو أسوأ من تغليفها بكيس أزرق بشع حجب جمالها؛ بعد أن تعرضتْ لقذيفة أثناء المعارك الدائرة في المدينة، ثقبت بطنها، وشوّهتْ الميدان، كانت ضربة أركـيولوجية نهائية وقاسمة.
آثار هذا الاعتداءُ اغضبَ السكان، ومن بينهم الروائي منصور بوشناف، الذي عبّر عن استيائه قائلاً : لطالما مثلتْ هذه التحفة خصوصية إطرابلس، بجمعها بين )الغزالة( التي تشير إلى تاريخ المدينة، و)الحسناء( الناعمة، المسالمة، التي تعبّر عن وجه إطرابلس البحري وأفقها.
إنّ استهداف هذا النصب ليس إلا خرقًا وتدميرًا لهذا التفاهم الهادئ الذي كانتْ تعرفه المدينة، ويتساءل: إن كانتْ هذه القذيفة قد تعدّتْ خرق التحفة، وما تعنيه من علاقة بين «الغزالة والحسناء»، لتصبح رمزًا لخرق، وقطيعة بيننا، وبين الحضارة الإنسانية.
ويرى مرعي التليسي أن النحات الإيطالي Angelo Fanitti قد تفوّق على نفسه في هذه المنحوتة المذهلة، والتي يرى في استهدافها بقذيفة جنوناً، وتطرفاً، مهيناً لذاكرة المدينة.
لم تكنْ )الغزالة، والحسناء( الوحيدة التي فقدناها، فقد دمُرت بعدها الكثير من البنايات، والمعالم منها ما سُوي بالأرض، نتيجة تجدّد النزاعات، والحروب بين أطراف مختلفة، منهم من هم من خارج البلاد، ومنهم من هم محسوبون على البلاد، وقد أظهرت النتائج حول )محاربو بلادهم( بأن مثل هذه المعالم غير مفهومة بالنسبة لهم، لذا كان التعامل معها بلغة المسح، وهي سبب من عدة أسباب تعاني منها ليبيا، وأتمنى أن تتغير العقليات، وتترك هذه المعالم لتتعايش مع التراث، لأن تراثنا ملك لمجتمعنا، ولأجيالنا المستقبلية، وليس ملكًا لمرضى النفوس.
لقد دمروا جامع «أحمد باشا القرمانلي» في سوق المشير بالمدينة القديمة، الذي بناه مؤسس الدولة القرمانلية الذي حكم البلاد منذ عام 1711م وحتى وفاته، كما دمروا جامع «درغوت باشا» محرَّر المدينة من فرسان «القديس يوحنا» عام 1551م، وقبلها دمروا جامع «الشعاب» أهم معالم إطرابلس، وغيرها من المعالم الأثرية والتاريخية في عديد المدن الليبية.
ما يؤسف وحتى يومنا هذا سياسات المحافظة على التراث اعتمدتْ على مصادر عثمانية، وإيطالية، وبريطانية، ولازلنا نعتمد عليها في البحوث والدراسات، وما غيرها يتأرجح ما بين الروايات، والاساطير، ولا توجد سياسة رسمية شاملة للحفاظ على التراث، بل توجد عددُ من العقبات للحفاظ عليه، منها انعدام التنسيق بين الأجسام المختلفة، وقضايا الملكية وتطبيق القانون، والأهم هو انعدام الالتزام والدعم المهني.
لكن يبدو أن العقبة الجوهرية الأكبر هي انعدام المعايير الموحّدة. بشكل عام، فإن إحدى نقاط الضعف الرئيسة في قضايا الحفاظ على التراث هو الاعتبار الاقتصادي، ليس من الواضح مَنْ الذي يتحمل نفقاته، ومن الذي يتمتع به أو متى؟، ومن الصعب أكثر تحديد قيمته المستقبلية، زد على ذلك أن الحفاظ على التراث ما زال يُعد من الكماليات التي لا قيمة لها، حيث لا يرى كثيرون في الحفاظ على التراث هدفًا مهمًا في عملية التخطيط، لتكون النتيجة الضغط نحو الإسراع في التطوير وهو ما نلمسه على المستوى المحلي في الأساس، المعطيات الأخرى في البلاد لا تدع مجالاً للشك في وجود فجوة كبيرة بين عدد المعالم الجديرة بالحماية.
وتمنيتُ لو أن هناك حسًا وطنيًا تجاه النقوش، والتواريخ والآثار؛ لكن الجميع لم يتخذ أي إجراء، كل ما صدر هو بيانات استنكار، فكانت النتيجة طبيعية طالما أن هناك مجتمعًا بجل مكوناته، ومؤسساته؛ لا يبـالي بتاريخه وآثاره وتراثه، فلا حياة لمن تنادي.