اجتماعي

شيح وقهوة ُحين يصبح الأمل سماً في علبة

فائزة العجيلي

‮«‬أسأل‭ ‬مجرّب‭ ‬ولا‭ ‬تسأل‭ ‬طبيب‭!‬‮»‬

عبارة‭ ‬يردّدها‭ ‬البعض‭ ‬بثقة‭ ‬عمياء‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مجلس،‭ ‬منشور،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬قراراتهم‭ ‬الصحية‭ ‬المصيرية،‭ ‬وكأن‭ ‬التجربة‭ ‬الفردية‭ ‬أصبحتْ‭ ‬مرجعًا‭ ‬أعلى‭ ‬من‭ ‬سنوات‭ ‬العلم‭ ‬ومجلدات‭ ‬الطب‭ ‬والدراسات‭.‬

في‭ ‬ليبيا‭ ‬اليوم،‭ ‬نعيش‭ ‬موجة‭ ‬تسويق‭ ‬جنوني‭ ‬لوصفات‭ ‬شعبية،‭ ‬تدّعي‭ ‬علاج‭ ‬السرطان‭ ‬وشفاء‭ ‬السكري‭ ‬وإنقاذ‭ ‬الكلى‭ ‬وتطهير‭ ‬الكبد،‭ ‬وكل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬كيس‭ ‬صغير‭ ‬من‭ ‬‮«‬الشيح‭ ‬والقهوة‮»‬‭!‬

لكن‭ ‬خلف‭ ‬هذه‭ ‬الجرعة‭ ‬‮«‬المبشرة‮»‬،‭ ‬تختبئ‭ ‬مأساة‭ ‬إنسانية‭ ‬وطبية‭ ‬صامتة‭… ‬تتسلّل‭ ‬إلى‭ ‬غرف‭ ‬العناية،‭ ‬وعيادات‭ ‬الأورام،‭ ‬وتترك‭ ‬ضحاياها‭ ‬بين‭ ‬أجهزة‭ ‬الغسيل‭ ‬الكلوي‭ ‬وتحت‭ ‬وطأة‭ ‬الفشل‭ ‬الكبدي‭ ‬والتهاب‭ ‬المعدة‭.‬‮  ‬حين‭ ‬يصبح‭ ‬الأمل‭ ‬سُمًا‭ ‬في‭ ‬علبة‭!‬

الأطباء‭ ‬في‭ ‬المعهد‭ ‬القومي‭ ‬لعلاج‭ ‬الأورام‭ ‬بصبراتة،‭ ‬وغيرهم‭ ‬من‭ ‬العاملين‭ ‬في‭ ‬مراكز‭ ‬طبية‭ ‬أخرى،‭ ‬لا‭ ‬يعيشون‭ ‬جدلًا‭ ‬نظريًا‭ ‬على‭ ‬‮«‬فيسبوك‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬يواجهون‭ ‬يوميًا‭ ‬نتائج‭ ‬مرعبة‭ ‬على‭ ‬أسِرّة‭ ‬المرضى‭:‬

فشل‭ ‬كلوي‭ ‬حاد،‭ ‬ارتفاع‭ ‬صادم‭ ‬في‭ ‬الصفراء،‭ ‬نوبات‭ ‬قئ‭ ‬لا‭ ‬تتوقف،‭ ‬والتهابات‭ ‬معدية،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬مرضى‭ ‬أورام‭ ‬يتراجع‭ ‬وعيهم‭ ‬بشكل‭ ‬مفاجئ‭ ‬بعد‭ ‬تناول‭ ‬هذه‭ ‬الخلطات‭ ‬‮«‬السحرية‮»‬‭.‬

والمفزع‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يتم‭ ‬دون‭ ‬أي‭ ‬إشراف‭ ‬طبي،‭ ‬أو‭ ‬وصفات‭ ‬دقيقة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬تشخيص‭ ‬واضح‭!‬

من‭ ‬شفاه‭ ‬الله،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬شيحك‭ ‬وقهوتك‭!‬

قصة‭ ‬مريض‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬متقدمة‭ ‬من‭ ‬السرطان،‭ ‬يوقف‭ ‬علاجه‭ ‬بعد‭ ‬فيديو‭ ‬مبشّر‭ ‬على‭ ‬فيسبوك،‭ ‬ثم‭ ‬يعود‭ ‬بعد‭ ‬أيام‭ ‬بحالة‭ ‬متدهورة‮…‬

أم‭ ‬شاب‭ ‬يعاني‭ ‬من‭ ‬أورام‭ ‬في‭ ‬الدم‭ ‬أحد‭ ‬أكثر‭ ‬الأنواع‭ ‬القابلة‭ ‬للعلاج‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬الموت‭ ‬لأن‭ ‬‮«‬الخلطة‮»‬‭ ‬دمرتْ‭ ‬وظائف‭ ‬الكلى‭ ‬والكبد‮…‬

ومريضة‭ ‬سكري‭ ‬وضغط‭ ‬تتناول‭ ‬الجرعة‭ ‬فقط‭ ‬ليومين،‭ ‬فتنهار‭ ‬حالتها‭ ‬وتدخل‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬حادة‮…‬

قصص‭ ‬لا‭ ‬تُروى‭ ‬على‭ ‬منصات‭ ‬‮«‬المعجزات‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬توثق‭ ‬في‭ ‬تقارير‭ ‬وتحاليل‭ ‬وملفات‭ ‬رسمية،‭ ‬ولكن‭ ‬لا‭ ‬أحد‭ ‬يريد‭ ‬سماعها‭.‬

أين‭ ‬الطب؟‭!‬،‭ ‬وأين‭ ‬الضمير؟‭!‬

فيما‭ ‬يستمر‭ ‬الأطباء‭ ‬بنشر‭ ‬التحذيرات،‭ ‬تُقابل‭ ‬جهودهم‭ ‬بالتشكيك،‭ ‬والسخرية،‭ ‬والاتهامات‭ ‬بأنهم‭ ‬‮«‬تجار‭ ‬للدواء‭ ‬الكيماوي‮»‬‭.‬

وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬يطلّ‭ ‬علينا‭ ‬صاحب‭ ‬الفيديو‭ ‬الذي‭ ‬أشعل‭ ‬الفوضى،‭ ‬يفتتح‭ ‬‮«‬مركزًا‭ ‬خاصًا‮»‬‭ ‬ويوزع‭ ‬وصفاته‭ ‬من‭ ‬خلف‭ ‬مكتب،‭ ‬وكأنه‭ ‬طبيب‭ ‬مرخّص،‭ ‬أو‭ ‬باحث‭ ‬موثوق‭!‬

أي‭ ‬عبث‭ ‬هذا؟‭ ‬وأي‭ ‬دماء‭ ‬ستُزهق‭ ‬باسم‭ ‬الأمل‭ ‬الزائف؟

لسنا‭ ‬ضد‭ ‬الطب‭ ‬البديل،‭ ‬ولكن‭…‬

الطب‭ ‬البديل‭ ‬ليس‭ ‬عدوًا،‭ ‬بل‭ ‬مكملًا‭ ‬حين‭ ‬يُستخدم‭ ‬بمسؤولية‭ ‬وتحت‭ ‬إشراف‭ ‬طبي،‭ ‬وضمن‭ ‬حدود‭ ‬علمية‭ ‬دقيقة‭.‬

لكن‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬اليوم‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالطب‭ ‬البديل،‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬ترويج‭ ‬شعبي،‭ ‬غير‭ ‬مرخص،‭ ‬لخلطات‭ ‬مجهولة‭ ‬المصدر،‭ ‬تُباع‭ ‬على‭ ‬الأرصفة‭ ‬وتُنشر‭ ‬كأنها‭ ‬فتح‭ ‬مبين‭.‬

الأطباء‭ ‬ليسوا‭ ‬أنبياء،‭ ‬لكنهم‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬يعرفون‭ ‬العواقب‭. ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يرون‭ ‬‮«‬منشورات‭ ‬النجاح‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬يتلقّون‭ ‬الحالات‭ ‬حين‭ ‬تنهار‭ ‬الأجسام‭ ‬ويتسرب‭ ‬الأمل‭ ‬بين‭ ‬الأجهزة‭ ‬والأنين‭.‬

كلمة‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬منها

السكوت‭ ‬جريمة،‭ ‬والتغافل‭ ‬خيانة‭ ‬للصحة‭ ‬العامة‭.‬

أن‭ ‬تشارك‭ ‬منشورًا‭ ‬‮«‬يحمل‭ ‬جرعة‭ ‬أمل‭ ‬مزيفة‮»‬،‭ ‬وأنت‭ ‬لا‭ ‬تعرف‭ ‬خلفيته‭ ‬العلمية،‭ ‬هو‭ ‬كأنك‭ ‬تصب‭ ‬سمًا‭ ‬في‭ ‬كوب‭ ‬مريض‭ ‬ينتظر‭ ‬شفاء‭.‬

وأن‭ ‬تهاجم‭ ‬طبيبًا‭ ‬حذّر،‭ ‬فقط‭ ‬لأنك‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تؤمن‭ ‬بالمعجزة‭… ‬فأنت‭ ‬تقتل‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬تدري‭.‬

بين‭ ‬الشيح‭ ‬والقهوة،‭ ‬وبين‭ ‬الجهل‭ ‬والأمل،‭ ‬تُزهق‭ ‬أرواح،‭ ‬وتُهدر‭ ‬فرص،‭ ‬وتُكسر‭ ‬ثقة‭ ‬الناس‭ ‬في‭ ‬العلم‭ ‬والعقل‭.‬

فلنُفرّق‭ ‬بين‭ ‬المعجزة‭ ‬والمهلكة،‭ ‬بين‭ ‬القصة‭ ‬الجميلة،‭ ‬والحقيقة‭ ‬المؤلمة‭.‬

دعوا‭ ‬الأطباء‭ ‬يشتغلون‮…‬‭ ‬وكفّوا‭ ‬عن‭ ‬صناعة‭ ‬الوهم‭!‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى