أ.فرج غيث
تعمّقتُ مؤخراً في دراسات حول تاريخ مدن بلادي الجميلة، وعمارتها ومعالمها وقصصها، وشخصياتها، منذ بدأت دراستي، وربما قبل ذلك بقليل، عشتُ تفاصيلها بجمالياتها وسلبياتها، بأساطيرها وحكاياتها، حيث دفء المكان وعراقة التفاصيل، والأدب والعلم والثقافة، مدن عرفت بأدبائها ومثقفيها، حاولتُ أن أبذل جهداً كافياً كي يرى كل من عرفت، وكل من لم أعرف، ما رأيت، ما عشقت، ما كتبت، ما صورت، وحتى ما رسمت. لأن دراسة الحقب التاريخية للأماكن منهج ورؤية بعيدة تلخّصها في النهاية وثائق وأسانيد، تضم في سطورها حقائق، وتكشف عن أمور وموضوعات تتجدد مع البحث العلمي على الدوام، وتفتح أمام العيون أبواباً للاجتهاد والدراسة والتحليل، في مراحل زمنية معينة. وعالم الشهرة لا يقتصر على الأشخاص والأماكن فقط، فكما توجد شخصيات وأماكن مشهورة حول العالم، توجد أيضا صخور غريبة مشهورة حول العالم، تتمتع بشهرة واسعة، ولها تاريخ، جعلت منها معالم سياحية يقصدها الزوار لالتقاط الصور إلى جانبها، لأنها أكثر جمالاً ودهشة، وهناك صخور وضعت على العملات، واستخدمت كرمز للحفاظ على البيئة وتنميتها. وتعد الصخرة المشرفة، الصخرة التي عرج من فوقها النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء ليلة الإسراء والمعراج، أهم صخرة على وجه الكرة الأرضية، والصخرة الثانية صخرة نبي الله صالح عليه السلام التي خرجت منها الناقة، وبقية الصخور لا تعني شيئا، ولا يوجد فيها أي معجزة من المعجزات الإلهية. إذا كانت في سوسة التونسية توجد الصخرة المقلوبة وهي من معالم سوسة، فهنا في سوسة الليبية توجد صخرة أخرى لكنها تختلف عن صخرة سوسة التونسية، فصخرة سوسة الليبية، صخرة كبيرة تقف صامدة في البحر مقابلة لميناء مدينة سوسة، بها العديد من التكوينات الصخرية الغريبة، بفعل الرياح والمياه وجميع عوامل الطبيعة الغير مسترة، أطلق عليها سكان المدينة أسم (صخرة الطيران)، وهي على شكل غرفة كبيرة، وكانت على حسب ما ذكر لي ذات يوم العالم الاركيولوجي الليبي الراحل دكتور فضل القوريني جزء من قصر يرجع تاريخه للعهد الاغريقي في ليبيا، وجزء من منطقة غمرتها مياه البحر، وهي من الأثار الغارقة التي تحتاج الى عمل لإبرازها، ولازلنا في انتظار الأستاذة ريم الحاسي عضو مؤسسة إرثنا للتراث والثقافة EFHC في سوسة الليبية الجميلة والمختصة في الآثار الغارقة لتزودنا بالأبحاث اللازمة عن آثار المدن الغارقة في ليبيا. لطالما كانت للمُدُن أهمية ثقافية وحيوية كبيرة، أهمية تعود إلى بدايات تشكّلها، ومن أقدم ما وصلنا منها يعود إلى ما قبل قرون عديدة مضت، وتحديداً عندما كان سقراط Socrates يَهيم على وجهه في ساحاتها، التي كانت تُعرف وقتذاك باسم الأجورة Agora متحدّثاً في شتى المجالات مع رفاقه وتلامذته ورافضي فلسفته على السواء، ويرى الناقد والكاتب الأمريكي Michael Kimmel المتخصّص في فنون العمارة في صحيفة The New York Times بأن المُدُن تكمن أهميتها في أنها تلعب دور المغناطيس، إذ تجذب الناس والأشخاص بمختلف انتماءاتهم وخلفياتهم، وتشهد اختلاط الجميع في بوتقة واحدة، رغبة في إشباع روح المشاركة والانصهار في قيم مجتمعية مشتركة. فالمدن تشبه البشر، فهي تولد وتمر بمرحلتي الطفولة والمراهقة، ثم تشيخ، إذ أن المدن تنتصب فوق أعمدة روحية، كالمرايا العملاقة، وهي تعكس قلوب سكانها، فإذا أظلمت هذه القلوب، وفقدت إيمانها، فإنها ستفقد بريقها وبهاءها، تلك هي إحدى قواعد العشق، ولله سننٌ لا تتحول، وأحوالٌ لا تتبدل. في هذا المكان حيث يغزل التاريخ حكايات تروي وتحتفي بالحضارة، توجد مدينة أثريةً ليبية متعددة الحضارات تعرف تاريخياً بمدينة أبولونيا وتعني )رب الموسيقى والسماء(، تأسست عام 631 ق.م من قبل مهاجرين إغريق، وأطلقوا عليها اسم )أبولونيا( نسبة الى أبولو، تطل على ساحل البحر الأبيض المتوسط، تقع شمال شرق مدينة قوريني بحوالي عشرين كيلومتراً، وتبعد عن مدينة دارنس «درنة» بحوالي 88كم، وعن هيوسبريدس «بنغازي» بمسافة 220كم من جهة الشرق، عبر رأس الهلال أو عن طريق مدينة دارنس (درنة. تعتد من أجمل المدن الليبية على الإطلاق، هذه المدينة هي الجميلة سوسة، هي لوحة جميلة ازدانت بها بلادي، وصور لوطن رائع لا يمكن إلا أن يكون كما يجب أن يكون، ، ففي هذه البقعة الجميلة والتي يجهلها الكثير من أبناء الوطن، تكتسي الأرض في فصل الربيع باللون الزاهي من أزهار الربيع، مانحة لكل من يزورها أمتع المناظر التي حباها الله بها، بطبيعة ساحرة ومتنوعة، متمثلة في تنوع غريب وجبال مختلفة من حيث الطبيعة والارتفاع، فأينما وضعت رجلك وجدت نفسك في احدى جناتها، حيث السهول والأودية والجبال الخضراء بتنوعها في كل شيء. شريط من الطبيعة الجميلة دائم الخضرة وغني بمصادر المياه، لا يتغير لون النباتات والأشجار الموجودة فيه على اختلاف الفصول وتغيّرها، كما تتواجد العديد من المناطق الأثريّة والسياحية، ووادي مرقص، أحد حواري السيد المسيح عليه السلام. ولا عجب فقد ذكرها كل الرحال والشعراء والكتاب في مؤلفاتهم، ولم يستحمل الشاعر المصري علي محمد أحمد سحر جمالها فقال فيها: قصيدة )من وحي سوسة( هي الأشهر، وتحتوي على ما يقارب خمسين بيتاً، نظمها بعد عودته من رحلة قام بها في تلك الأيام الطلاب والمدرسون في مدرسة بنغـازي الثانوية إلى مدينة سوسة، وقد نشرها في صحيفة البشائر في عددها الصادر يوم27 يوليو 1953م، وأهداها إلى شاعر ليبيا الكبير أحمد رفيق المهدوي. وقد ولد الشاعر علي محمد أحمد في إحدى قري محافظة طنطا بمصر عام 1918م وتخرج في دار العلوم بالقاهرة عام 1946م، ودرس اللغة العربية في مدرسة بنغازي الثانوية ثم انتقل إلى مدرسة مفتاح الماجري الثانوية بمدينة سوسة الجميلة.