
مع نهاية كل عام دراسي، تقف آلاف الأسر الليبية على أعتاب لحظة فاصلة: نتائج الشهادة الإعدادية. وبين من يفرحون بالنجاح، هناك من يعيشون وجع الرسوب، لكن الأكثر ألماً ليس الرسوب بحد ذاته، بل ما يليه من نظرات الإدانة وسياط الألسن التي تطلقها بعض الأمهات والآباء نحو أبنائهم.
وفي صمت البيوت، بعد صدور نتائج الشهادة الإعدادية، تُطوى شهادات، وتُفتح جروح.
هناك من بكى لأنه لم ينجح… وهناك من بكى لأنه لم يجد من يفهمه.
طالبٌ رسب، فاعتُبر “فاشلًا”، فانهالت عليه كلمات جارحة، بعضها أقسى من الصفعة…
فهل نحن نواسي أبناءنا عند العثرة؟ أم نغرس فيهم شعور الخيبة مدى الحياة؟
في هذا الاستطلاع الصحفي، نكشف عن وجوه خلف الأرقام، ونروي قصص طلاب لم يكسرهم الرسوب، بل كسرتهم نظرات الإهانة من أقرب الناس… ونستعرض آراء خبراء نفسيين واجتماعيين، يحذرون من كارثة صامتة قد تنشأ من مجرد “نتيجة”.
محمد 14 سنة، أحد الراسبين هذا العام، يقول:
”أبي لم يكتفِ بالصراخ، بل شتمني أمام إخوتي وجيراني… أحسست أني عديم القيمة، رغم أني حاولت واجتهدت.” وفقاً لمختصين نفسيين، فإن الرسوب لا يدمّر الطالب بقدر ما تفعل ردة فعل الأسرة. “السب والشتم والعنف اللفظي أو الجسدي يولد في الطالب شعوراً بالدونية”، كما تقول الأختصاصية النفسية د. سمر المغربي، وتضيف:
”الرسوب محطة، وليس نهاية الطريق. لكن حين يُعامل الطالب كفاشل أو عبء، تتكون داخله عقد نفسية قد تمتد لسنوات، وتؤثر على سلوكه وثقته بنفسه وحتى مستقبله.” حالة نفسية متصدعة
في جولة سريعة شملت عددًا من المدارس وأسر الطلبة الراسبين، لاحظنا قاسماً مشتركاً:
الخوف من مواجهة الوالدين
الانعزال عن الأصدقاء والمجتمع
التفكير في الهروب من المدرسة أو حتى من المنزل. يقول وليد، ولي أمر لطالب راسب:
”نعم، غضبت، لكني لم أضربه… قررت أحاوره وأفهم منه السبب. المهم نصلح الخطأ بدل نغرق فيه.” أما “مرام” والدة طالبة أخرى، فكانت أكثر حدة:
”الصراحة حطت راسي في الأرض، كنت متوقعة منها أفضل… قلتلها ماعادش عندك وجه تطلعي بيه قدام الناس!
وفي زوايا صامتة من بيوتنا، هناك قصص لا تُروى… طلبة حملوا فشلهم الدراسي على أكتافهم الصغيرة، وتلقّوا عليه أحكامًا قاسية من أقرب الناس إليهم.
”أمي سكبت علي الماء البارد وأنا نائم!”
يقول حسن 15 سنة
”بعد ظهور النتيجة، أمي دخلت الغرفة وسكبت عليّ الماء البارد وأنا نايم… قالت لي: قوم يا فاشل! حسيت إن قلبي انكسر. ماعادش نحس عندي قيمة في البيت”
هذه القصة ليست نادرة. حالات مشابهة تم تسجيلها في أكثر من مدينة ليبية، حيث يتحول الرسوب من حالة تعليمية إلى عقوبة اجتماعية قاسية.
️ “أبوي قطع الإنترنت عني وقال لي ما تستاهلش تلفون!”
عبدالرحمن، طالب آخر، يروي:
”حرمني من الهاتف، ومن المصروف، حتى من طلعة الجمعة. قال لي: ما تستحقش شي، انت خيّبت أملي! حسّيت إني عبء عليهم.”
لكن، في زوايا أخرى… هناك ضوء.
“قال لي: رسبت، مش نهاية العالم. نبدأ من جديد!”
ليلى، طالبة رسبت هذا العام، عاشت ردة فعل مختلفة تمامًا:
”بابا حضني وقال لي: عادي… مش نهاية العالم. حتى لو رسبتي مرتين، المهم نشتغلو على الأسباب. حسيت بدفء عمري ما ننساه.”
️ رأي المختص الاجتماعي. د. علي عمر
”الصدمة الدراسية إن لم تُحتوى بطريقة صحية، تتحول إلى شرخ نفسي. أغلب الطلبة اللي يتعرضوا للسخرية أو الإهانة في بيتهم، يكوّنون نظرة سوداوية عن أنفسهم، أو يهربوا للعزلة، أو حتى ينجروا وراء رفقة السوء.”
ظاهرة “الانسحاب النفسي” أفادت مربية صف بإعدادية طرابلس أن أكثر من 40% من الطلبة الراسبين يتغيبون عن بداية العام الدراسي التالي بسبب “الخوف من المواجهة”، مشيرةً إلى أن البعض “يفضل أن يعمل في الأسواق أو الورشات على أن يعود للفصل محملاً بنظرات الشفقة أو السخرية”. فتاة في بنغازي:
”أخويا مزّق كتبي قدامي وقال لي: خلي دراستك تنفعك! كنت نحب نكمل، لكن فقدت الأمل.” طالب يقول
”ضربني أبوي قدام أصحابي في الحوش… حسّيت روحي تكسّرت. الآن ما نحسش روحي نقدر نقرأ حتى صفحة.”
ام عفراء
”بنتي رسبت، وجاءتني تبكي. قلتلها: مش مشكلة، نعيدوا مع بعض، وندرسك بنفسي.
الرسبان اليوم قد يكون متفوق الغد، فقط إن وجد من يؤمن به. كل طفل يحتاج إلى فرصة ثانية، لا إلى محكمة عائلية!
الرأي النفسي والاجتماعي:
د. نجاة الترهوني أختصاصية نفسية تربوية:
”الرسوب في الشهادة الإعدادية يُمثل نقطة تحول نفسية حساسة، خاصة في عمر المراهقة. الطالب في هذا السن ما زال يُكوّن صورته الذاتية، وبالتالي حين يُقابل الفشل بالدعم يتجاوزه، لكن حين يُقابل بالإهانة أو السخرية، يتكون لديه ما نسميه “جرح نفسي صامت” قد يلازمه لسنوات.”
وتضيف:
”الآباء الذين يعاملون الرسوب على أنه كارثة أخلاقية، لا تعليمية، يغفلون عن أنهم يخلقون طلابًا مهزوزين، فاقدي الثقة بالنفس، وقد يظهر ذلك في شكل انطواء، كراهية للدراسة، أو حتى عدوانية تجاه المجتمع.”
الرأي الاجتماعي د. محمد عامر باحث اجتماعي في شؤون الأسرة والمراهقين:
”للأسف، لا يزال كثير من الأهالي يربطون نجاح الأبناء بـ”السمعة العائلية”، وليس بمجهود الطالب. فتتحول النتيجة إلى “عار اجتماعي” بدلاً من فرصة للتقويم والتطوير.”
ويؤكد:
”ردود الأفعال العنيفة لا تنبع من حرص حقيقي دائمًا، بل من ضغط مجتمعي خارجي يُمارَس على الآباء أنفسهم. ومع ذلك، لا يجوز أن تُفرَّغ هذه الضغوط على الطالب، لأنه الحلقة الأضعف في هذه السلسلة.”
ما النتائج الاجتماعية المتوقعة لسوء معاملة الراسبين؟
الانسحاب الاجتماعي: عدم الرغبة في الاندماج بالأسرة أو المدرسة
كراهية التعليم: نتيجة ربط الدراسة بالخوف والعقوبة
اضطرابات نفسية مستقبلية: قلق دائم، اكتئاب، ضعف في الشخصية
سلوكيات تعويضية خاطئة: مثل الكذب، العناد، العنف، أو الهروب من المنزل
الحل من وجهة نظر المختصين:
إعادة تأطير الرسوب: كونه تجربة تعليمية، لا فشلًا شخصيًا
تعزيز الحوار الأسري: اسأل ابنك: “ما الذي حصل؟ كيف نساعدك؟” بدل “ليش رسبت؟!”
منح فرصة ثانية: دعم الطالب بالدروس الخصوصية أو المراجعة المنظمة
الطالب الذي يشعر بالحب والدعم… يعود أقوى!
”الطالب لا يحتاج إلى تأنيب يذكره بالرسوب، بل إلى يد تمسك به ليقف من جديد.”
رسالة إلى أولياء الأمور: إن فشل أبنائكم لا يجب أن يكون مدخلاً لتحطيمهم، بل فرصة لإعادة بناءهم. فالكلمة الجارحة لا تُنسى، والعقاب القاسي لا يبني، بل يدمّر. في الختام…
من الضروري أن ننتقل من ثقافة “النجاح أو العار” إلى ثقافة “التجربة والتطوير”، فربما يرسب ابنك اليوم، لكنه ينجح غدًا، إن وجد الدعم لا الإدانة.
فالرسوب ليس نهاية الطريق… لكن الإهانة قد تكون بداية الانهيار.
الطالب لا يحتاج إلى محكمة بعد النتيجة، بل إلى حضن يُعيد له ثقته، وصوت يقول له:
”عادي، نخطئ… ونعود أقوى.”
في كل بيت طالب رسب، هناك خياران:
إما أن نكون سببًا في تحطيمه،
أو نكون الدافع الذي يعيده للحياة، أقوى وأوعى.
لنصنع أبناء أقوياء نفسيًا، لا مجرد متفوقين في الدرجات.
فالتربية، قبل التعليم… والاحتواء، قبل العتاب.
أبٌ يعاقب ابنه بحلاقة شعره وكتابة تاريخ رسوبه على رأسه!
في واقعة هزّت الرأي العام الليبي، وتحديدًا على منصات التواصل الاجتماعي، انتشرت صورة لفتى مراهق جالس في صمت، ورأسه محلوق بالكامل، وقد كُتب عليه بخطّ واضح: “تاريخ رسوبه” في مادة التاريخ، كمحاولة من والده لمعاقبته بطريقة مهينة ومحرجة.
القصة وقعت في إحدى المدن الليبية، بعد صدور نتائج الشهادة الإعدادية، حيث صُدم الأب من رسوب ابنه في مادة واحدة، فما كان منه إلا أن أخذ مقصًا وشفرة، وقام بحلاقة شعر رأس الفتى كاملاً، ثم كتب فوقه التاريخ الذي رسب فيه، كنوع من “العقاب العلني”، ونشر الصورة بنفسه على مواقع التواصل، تحت شعار: “عبرة لمن لا يعتبر!”
بحسب مقربين من العائلة، فإن الفتى دخل في حالة من الصدمة والانطواء التام بعد الحادثة، وأصبح يرفض الخروج من البيت أو الحديث مع أي شخص، كما ظهرت عليه علامات الخجل، والذل، والانكسار النفسي.
الخبراء النفسيون أكدوا أن هذا النوع من العقاب يندرج تحت ما يسمى بالعنف النفسي العلني، والذي يترك آثارًا طويلة الأمد على شخصية الطفل، وثقته بنفسه، وشعوره بالأمان داخل محيطه العائلي. الطفل في هذه المرحلة يحتاج للدعم لا للتشهير، للتوجيه لا للإهانة، وللتفاهم لا للانتقام من فشله.
هذه الحادثة أعادت فتح ملف العقوبات القاسية داخل البيوت الليبية، خاصة تلك التي تتم تحت غطاء التربية لكنها في الحقيقة تشوّه الكرامة وتزرع الخوف بدل الإصلاح.
أين حدود التأديب؟
وأين يتوقف العقاب ليبدأ العنف؟
وهل نشر صورة الطفل بهذا الشكل لا يُعد جريمة في حقه وحق طفولته وحق مستقبله؟ النهاية ليست هنا…
القصة لم تنتهِ، فقد طالب ناشطون ومهتمون بالشأن الاجتماعي بضرورة التدخل القانوني لحماية الطفل، ومحاسبة من يُسيء إليه، حتى لو كان الأب، لأن التربية لا تبرر الإذلال.
ولا يوجد في الشرع أو القانون ما يبيح فضح الأبناء وإهانتهم علنًا.
فالأب الذي كتب على رأس ابنه “تاريخ فشله”، ربما لم يدرك أنه كتب أيضًا “تاريخ الجرح الذي لن يُنسى”.