عبدالحكيم المالكي عن روايـة “إيشي”
قراءة
رواية تأخذك الى مجاهل النفس العميقة. تأخذك من نفسك اليك. تأخذك الى عوالم سحريه فاجعة، إلى عوالم أخرى لتقول لك إن الرواية قد صارت تصل الى هنا. لتقول لك إنَّ الرواية صارت فنا عصيا اسمه (إيشِّي).
منذ روايتها الاولى (خريجات قاريونس)، ثم الثانية (اللي قتل الكلب)، ثم الثالثة (اغتصاب محضية)، تعيش ا. عائشة الأصفر تحولات مميزة فنية ونصية، لنجدها مع النص الناقص في تحولات مميزه لتجربه روائية نسائية ليبية جنوبية شديده التميز.
في النص الناقص بدأ حضور ذلك الالم الانساني في أقصى حدوده؛ ونحن نتابع رسائل مريم المودعة في مصحه الامراض العقلية إلى (الذكر عامر) في سبها، وبين مريم عامر وحياتهما نتابع تحولات مجتمعيه تكاد تصل الى أن تكون تحولات ملحمية في الجنوب الليبي عموما وفي سبها خصوصا؛ حيث تابعنا مسيره الموت في حرب تشاد والموت في الصحراء بحثا عن لقمه العيش والموت زمن ثورة فبراير وبعدها؛ وضمن ذلك كله كانت الأستاذة عائشة الاصفر تنجز روايات مميزه فيها تشويق كبير، وقدرة على السرد تتناسب مع وعي الشخصيات، مع توظيف التأمل الذي صار ديدن كبار الروائيين في هذا الزمن. كان التأمل في النص الناقص في الانسان في حد ذاته وآلامه وفي خيانته وفي صدقه، وكان ضمن ذلك خليط من لغة مميزه تجمع بين الواقع في بعض الاحيان والفانتازي في أحيان أخرى، كما تمّ تجسيم المكان (زلاف) وأحياء سبها وتمت اسطرة الشخصيات المهيضة كسيرة الجناح: مريم وهيما وبينهما وضمن تلك الأمكنة وفي لحظه تاريخيه فارقه، تم الحديث عن سبها تحولاتها وعن خلفيات ما يحصل فيها من صراع مسلح أو غير مسلح، وكانت الرواية بهذا الشكل متنا للرحلة من الجنوب الى الشمال، ومن الشمال الى الجنوب ليكون الموت هو الحاضر مع مريم وهيما الذين كانا مصدر روحانية وتميز هذا النص الناقص.
في نصها علاقة حرجة تدخل أستاذة عائشة الاصفر بنا الى الرواية التي تحاكي المعقد نفسيا بشكل اصطناعي مميز ومقنع؛ حيث الالم والمرض والموت والهزيمة والحرب وذلك التناقض الحاصل بين وعي شاب من مدينه سرت اسمه جبر زمن ما بعد ثورة فبراير، وبين وعي عالمة الذرة المصرية سميرة موسى التي قتلت في حادث مشبوه بأمريكا بداية خمسينيات القرن الماضي.
نتابع الالام التي يعيشها جبر والانكسار وقد استلت ذاكرته لتستبدل بذاكرة عالمة الذرة المصرية سميره موسى. جبر الذي يعيش آلام ما بعد الحرب في مدينته التي دكتها الحروب عديد المرات، يعيش – أيضا– تمزقا بين جسده الذكوري وذاكرته ووعيه الأنثوى الذي أصبح ضاربا في أعماقه بعد أن استلت ذاكرته واستبدلت بذاكرة أخرى.
مع جبر وأسرته وبتفكير ووعي عالمه ذره مقتولة، نتابع كيف يتحول السرد الى متن لأعماق النفس المهيضة، كيف يتحول الراوي إلى محلل نفسي بشكل غير مباشر، وهو يرصد. ذلك التناقض بين وعي الانثى ووعي الذكر، بين ألم الانثى وبين ألم الذكر، ونتابع معه تلك التحولات التي تعيشها ليبيا عموما ومدينة سرت خصوصا في زمن فارق؛ زمن ما قبل ظهور داعش وبعدها لتصير الرواية متنا ملحميا ينكش الواقع، ويظل وهو ينكش الواقع يطرح أعماق شخصياته المشوهة التائهة الكسيرة في زمنها الصعب. لتنتج الروائية بذلك عمل روائي ليبي الموطن والوعي، عروبي التصور، ملتبسا بالتأمل في النفوس شديدة الخصوصية.
الآن مع روايتها الجديدة السادسة إيشِّي تعود أستاذة عائشة الى سبها. سبها التي أجدها قد صارت حيه أمامنا، نابضه بوجودها وتميزها، حاضرة برائحتها ومذاقها شديد الخصوصية، أجدها من خلال شخصيات رجالها ونسائها. سبها بمشاكلها وآلامها وأفراحها واتراحها؛ لأجزم بأنه إذا كان هناك من كاتب ليبي يمكن أن يوصف بانه كاتب جنوبي، وكذلك بأنه كاتب الجنوب الأول فإننا لن نجد اسما غير اسم الأستاذة عائشة الأصفر، وليس في هذا نوعا من التحجيم لآفقها الواسع الكبير في الكتابة ليبيا وعربيا؛ وإنما من باب التنبيه إلى تلك القدرة التي امتلكتها على التعريف وطرح وتقديم الجنوب تقديما لا اعتقد أنه قد قدم لاي مكان ليبي سابقا.
نحن إذا مع روائية المكان؛ ولكنه ليس المكان المجرد، إنه المكان جغرافيا نابضه بالتاريخ؛ وضمن هذه الجغرافيا وضمن أفق التاريخ الممتد قدما ومستقبلا نجد – من جديد– شخصيات شديده التعقيد تعيش ألمها الخاص، وتدور على نفسها بشكل غريب ومميز، ضمن سرد نابض بالحياة، وفي رواية خاصة ومختلفة وبطريقة لم تشاهدها سابقا في رواية؛ فهذه الشخصيات مختلفة جدا، سواء الشخصية الرئيسية (أحبيب) الذي نتابع هوانه لدرجة أنه لا يكاد يمتلك اسما خاصا، ذلك الشخص شبيه الديك، الذي يدور على نفسه باستمرار ويعيش تصور للعالم من وعي الدواجن، ضن تجربة مهانة لامثيل لها في فضاء مكاني يعتمد على القوة، كما يعيش مع تصوره الداخلي ذلك فتنة مظهره الخارجي البائس، ويعيش فتنه الاعتداء عليه جسديا، ويعيش فتنه طيبته في مجتمع يعيش تحولا كبيرا وسريعا، وفي لحظه فارقة فُقِدَ فيها القانون والعقل، وعاش الكل بالغلبة وما يريدون.
رفيقته الدائمة إيشِّي التي تزعم قدومها من اثيوبيا وتتكشف الرواية عن رؤى أخرى وأبعاد مختلفة لحياتها. نتابع إيشِّي بكل رقتها وتميزها التي تبدو قريبه الى حد كبير من شخصيه مريم شخصيه المرأة الرومانسية المرهقة والتعيسة في روايتها النص الناقص.
لم تكتفي الروائية في هذه الرواية بشخصيتين فقط، وانما رسمت عبر عديد الشخصيات ذلك التناقض بين المرأة الجنوبية والشمالية؛ حيث وضعتهما في وضع تقابلي يبرز ذلك التباين؛ الذي ليس تباينا في الشكل ولا في الملبس ولا في الوعي ولا في الثقافة فقط؛ وانما تباين في الأعماق؛ إذ أن كل واحدة تضع لنفسها فلسفتها ورؤيتها وتتأمل في الحياة بحسب طريقتها.
رأينا – أيضا –البيت السبهاوي الراسخ الذي تمثله زمزم والده (أحبيب) مقابل بيت أزهيرة البائسة القادمة من أفريقيا، التي تسعى للقمة عيشها بشتى الطرق، وبينهما تابعنا نعيمة وأمها وتابعنا عديد العائلات المختلفة، كما تابعنا شخصيات ذكورية مكتملة النمو مختلفة ومتضادة أو متباينة ثقافيا وأخلاقيا من توكة إلى أمبية، إلى أحواس،