
حين يُسرق العمر على مهل أخرجُ من بيتي كل صباح كأنني أحمل العالم على كتفي، أستجمع ما تبقى من أحلامي، وأدخل مكتبي وفي قلبي يقين أن الاجتهاد لا يخون صاحبه.
لكنني كنت مخطئًا، فهناك دائمًا “عصفور المدير” يسبقني إلى القمة، ليس لأنه أذكى أو أكفأ، بل لأنه يملك أجنحة من الرياء والوساطة والمحسوبية، بينما أنا أثقلتني أمانتي وطموحي الصادق.
كنتُ أظن أن المشاريع تُبنى بالعرق والسهر والتفاني، لكنني شاهدت بعيني كيف يُنهب العمر بضحكة صفراء وتوقيع بارد. مشروعي الذي حلمت به سنوات، فاضت به دفاتري وحساباتي، صار فجأة على مكتب المدير، باسمه هو لا اسمي، يصفقون له وهو يردد أفكاري كما لو أنها خرجت من رأسه.
أما أنا؟ فلا زلتُ أُسجّل حضوري وغيابي في دفترٍ بالٍ، وكأنني مجرد ظلّ يمرّ بين جدران باهتة. العجيب أن هذا “العصفور” لم يكتفِ بسرقة المشروع، بل سرق أيامي وصحتي، حتى ابتسامتي البسيطة باتت مرهونة بمزاجه.
هو لا يعمل ولا يبدع، لكنه يتغذى على جهد الآخرين مثل كائن طفيلي، يكبر كلما صغرنا، ويعلو كلما انكسرت قلوبنا. في ليبيا، لم يعد هذا المشهد غريبًا، ففي كل مؤسسة يوجد “عصفور مدير” ينتف ريش الطموحين، ويحوّل دموعهم إلى زينة على صدره.
أكتب هذا لا لأجل نفسي فقط، بل لأجل جيلٍ كامل من الشباب الليبي الذي يملك الكفاءة والشغف، لكنه يُدفن تحت ركام المحسوبيات والوساطات.
شباب درسوا وتفوقوا وتغربوا، ثم عادوا ليجدوا أن الأبواب مقفلة، وأن المقاعد محجوزة، وأن النجاح لا يصنعه الجهد بل “القرابة” و”المجاملة”.
إلى متى نترك هذه الطيور الطفيلية تكبر وتسرق الهواء الذي نتنفسه؟ متى نقف لنميز بين من يستحق المنصب ومن يتسلق على أكتاف الآخرين؟
أليس من حقنا أن نرى العدالة تتحقق ولو لمرة، أن يعطى كل ذي حق حقه، لا أن نظل نلوك عبارة “حسبي الله ونعم الوكيل” كتعويذة نائسة؟ مرارة مرعي هي مرارتنا جميعًا.
فمن لم يخطف “عصفور المدير” مشروعه، فقد خطف منه عمره، أو أحلامه، أو صحته. وكل يوم نصحو على سؤالٍ واحد: هل سنظل نحيا في وطنٍ يسرق فيه العصفور السماء من جناح الشمس، أم سنجرؤ أخيرًا على كسر القفص؟