
استطلاع الشعراء
وعن النَّص الحديث والشعر في ليبيا توجهنا بهذا الأسئلة إلى مجموعة من الشعراء:
الشعر الألفيني الذي ينتمي له نصك إلى أي مدى استطاع عبر قصيدة النثر أن يكون راسخًا ؟ وماذا ينقص هذا الجيل الشعري؟ وهل استطاع أن يكون مؤثرًا
وهو يشهد انحسارًا ملحوظًا عنه لصالح الرواية؟
لن أجيب عن أي من هذه الأسئلة، قبل أن أطرح السؤال الذي أراه أحقّ بالإجابة، السؤال الأول الذي يسبق كل ما عداه: هل كُتبت قصيدة النثر في ليبيا؟، وهل استطاع الشعراء الطليعيون -إن صح التعبير- أن يتمثلوا قصيدة النثر كما تمثلها شعراء المشرق العربي قبل ذلك؟ هل كتب العماري وشلابي والعشة قصيدة النثر حقا؟ أم أنهم كتبوا نصوصًا أخرى تتشابه معها في المظهر وتختلف عنها في الجوهر؟ إنه السؤال الحقيقي بأن يكون سؤال اللحظة الآنية؟ سؤال الجيل الذي ننتمي له، هل سلك هؤلاء الذين سرنا في إثرهم الطريق الصحيح؟ في الحقيقة هو سؤال ثلاثي الأبعاد، سؤال لا يطال من يكتب قصيدة النثر فحسب، بل يمتد إلى مَنْ يتلقاها، وإلى مَنْ يمتلك أدوات نقدها؟ غير أن هذا السؤال، رغم تعقيده الظاهر، لم يعد صعبًا كما يبدو، على الأقل صار في وسعي الآن أن أجيب عنه، وإن لم تكن مئات القصائد التي انكبَّبت زمنًا على كتابتها تشفع ليّ بإبداء رأيي، فإن دراستي في مرحلة الماجستير لبنية قصيدة النثر لأنموذجها الأكثر صدقًا وقربًا ونفاذًا لجوهرها «محمد الماغوط» تنهض مقام الشفاعة، بما فتحته أمامي من وعي وإحاطة بإيقاعاتها وبناها ولغتها، وما صاحب ذلك من محاولات دؤوبة لفهم خصوصيتها، يجعلني أقول الآن بثقة: أننا لم نستوعب هذه الخصوصية بعد، ذلك أن أغلب النصوص التي كُتبت، وتُكتب تحت هذا المسمّى فشلت في تمثّل العناصر التكوينية الأساسية لقصيدة النثر، سواء على صعيد الإيقاع الداخلي أو البنية الدلالية أو الاقتصاد اللغوي، وغالبًا ما اقتصر الإبداع فيها على محاكاة الشكل الخارجي ومحاولة تقليده، أستثني من ذلك شطرًا من تجربة مفتاح العماري في الجيل الأول، وبعض التجارب الآنية التي لا تكاد تبين وسط زحام الرداءة والتخبط، غير أن هذا العبء لا يقع على كاهل الشاعر وحده، بل يشاركه فيه النقاد الذين يحتاجون أنفسهم لفرز وتقويم، أعتقد أنه صار قمينا بهم أن يقوموا من سباتهم ويمارسوا دورهم الأولي، وهو الاحتكام لمعايير من شأنها فلترة النصوص قبل دراستها، أليس من البداهة أن تُخضع النصوص لمرحلة الفرز قبل إخضاعها لمرحلة التحليل؟ ذلك أن غياب هذا الوعي أدى لظاهرة لافتة وغريبة، تتمثل في أن معظم الدراسات التي تتحرى دراسة قصيدة النثر تتخذ نماذجها نصوص شعراء لم يكتبوا يومًا قصيدة النثر! كيف نتطلع لكشف المخبوء، واستبطان الجوهر، والنفاذ إلى بنى أكثر عمقًا وكمونًا، ونحن نحفر في أرض بور !!
ألم نكتفِ بعدُ من مراقبة هذا العبث المكرَّر، هذا العبث المنخرط في ديمومة لا تتوقف؟ العبث السائر في طريق الترسخ، والمطالب بحقّه في البقاء والاعتراف، بل الإشادة والاحتفاء!
إن جل النصوص التي تكتب اليوم ونقرؤها في المجموعات الجديدة وعلى صفحات «الفيس بوك»، والتي تسوق على أنها قصيدة نثر وتُدرس على أنها قصيدة نثر لا تكاد – في تصوّري- تخرج عن أربع صور رئيسة:
أولها: نصوصٌ لم تتجاوز حدودَ الخاطرة النثرية؛ إذ تفتقر إلى معظم خصائص قصيدة النثر، وإن كانت تُشبهها في الشكل الخارجي، فهي تُقدَّم في مقاطع قصيرة متوارية بقدرٍ من الإيقاع الداخلي؛ مما يضلل المتلقي ويوهمه بأنها تنتمي إلى قصيدة نثر، وهي الصورة الغالبة اليوم.
وثانيها: نصوص تستنسخ السريالية القديمة، فتجدها تحمل عبئًا ثقيلًا من سريالية مستهلكة، تنوء قصيدة النثر بحملها، سريالية لم تعد قادرة على احتمالها أو الاتساق معها.
وثالثها: نصوص تُضاعِف جرعة الإيروتيك؛ لتصنع ما تظنه «مفاجأة شعرية»، وهي مفاجأة شكلية تقوم مقام التوتر والإشراق المطلوبين في قصيدة النثر، لكنها في العمق لا تتجاوز كونها انزياحات سطحية على حدود الخاطرة.
ورابعها: نصوص جعلت من التراكيب اللغوية ساحةً للاستعراض البلاغي؛ فغدت بعض القصائد أشبه بــ«فتارين»لغوية مكتظة بالتشابيه، والاستعارات وألعاب اللغة، من غير أن تضيف أية رؤية أو تجربة، أو تنفذ ولو بقدر إلى جوهر قصيدة النثر.
قصيدة النثر صارتْ أقرب للقراء .. مفتاح العلواني
إن البداية بسؤال عن الشعر الألفيني يقودنا إلى فكرة أن الشعر يختلف باختلاف الوقت.. والمحيط.. والنَّاس.. وطبائعهم.. ويختلف كذلك حتى مع التطور التكنولوجي.. لذلك فالنص الراسخ هو النص الذي استطاع أن يصل إلى الناس بشعريته وصوره الشعرية ومجازاته الفنية.. ولا يهم حينها الوقت بالنسبة إليه.. ولا شك أن قصيدة النثر صارت أقرب للقراء كونها منسلخة عن حصار الوزن والقافية.. لذلك هي أكثر براحاً.. وتستلزم أن تكون الصورة الشعرية فيها مكثفة حتى تكون راسخة.. ولا أعتقد أن حتى الذين يتذوقون الشعر من غير الشعراء قد تغيب عنهم هذه الفكرة.. وكل ذلك بعيدًا عن الجدل الذي يثار بين الفينة والأخرى عن جدارة القصيدة النثرية وصلاحيتها كشعر أمام الأنواع الأخرى كـ)العمودي والتفعيلة(.. فهذه مسألة أخرى يطول فيها الحديث.. لكنه في نهاية الأمر يظل الشعر شعراً ما دام أنه قيل بشعرية وصور عظيمة ومجازات تجعل القارئ منهمكاً في تخيلها.. ولا يهم بعد ذلك شكله.. حيث كان أبو العتاهية يقول: «أنا أكبر من العروض»
ومن ناحية أخرى.. فلا أعتقد أن جيلاً ما قد ينقصه ما يدفعه ليخلق قصيدة جميلة.. فالشاعر الحقيقي ليس في حاجة لدافع مادي أو أدوات معينة ليقول قصيدة جيدة.. فالأمر كله متعلق بالتقاطه للصورة الشعرية الفاخرة في أي مكان أو زمان.. لأن الشعر في نظري هو لحظة وعي حادة.. تجعل الشاعر في حالة تستلزم منه أن يقول ما يشعر به تلك اللحظة ما يمكن تسميته شعراً.. وفي نظري أيضاً أن الشعر ليس أن تركم جملة فوق جملة.. أو أن تحشر كلمات غريبة أو شائكة.. أو أن تقول كلاماً غير مفهوم ثم تخبرنا أن المعنى في بطن الشاعر.. لا.. فالشعر بحق أن تتحدث بلغة الناس العادية.. تلك اللغة التي تحيلها أنت لشعر حتى يتساءل الآخرون: هذا كلامنا العادي.. ما الذي جعله جميلاً هكذا؟.. فنحن لسنا أمام مسألة رياضية في الشعر.. حتى نسرع لفك طلاسم قصيدة بشكل يغيب عنا فرصة التلذذ بالشعر بدل أن نضيع في محاولة فهمه.
والقول بأن الشعر ينحسر أمام الرواية هو قول مهزوز.. ولا أظنه حقيقياً.. فالشعر ظل موجوداً منذ آلاف السنين.. ظهرت فنون أدبية أخرى.. وغابت فنون.. وراح شعراء وأتى آخرون.. والشعر باقٍ.. وأحسب أن الشعر في السنوات الأخيرة صار أكثر حضوراً من ذي قبل.. خاصة فيما يتعلق بقصيدة النثر.. حيث الناس يبحثون عما يترجم ما يحسون بلغة لم يستطيعوا قولها بشكل عادي في ظل انشغالهم وفي ظل مطاردة الحياة والظروف لهم.. فلا يمكن الاستغناء عن الشعر.. فرب ومضة شعرية لا تساويها رواية كاملة.. وقد تعيش قصيدة قصيرة وتُنسى رواية من ألف صفحة.. فلا غنى للناس عن القصائد؛ حيث القصيدة العظيمة يظل الناس يرددونها حتى في أحاديثهم العادية.. لذلك لا يمكن أن ينسحر شعر أمام موجة من الروايات.
صرخة في وجه الفراغ .. محمد عبدالله
الشعر الألفيني في ليبيا لم يولد من رغبة في الجمال بل من حاجة إلى النجاة ، قصيدة النثر لم تكن ترفًا بل صرخة في وجه الفراغ رسخت لأنها اللغة الوحيدة التي استطاعت أن تقول الألم بلا قناع لكنها ما زالت تدور في هواء معزول بلا نقد حقيقي ولا قارئ يغامر .
نحن جيل كتب الشعر على شاشات مضيئة وفي مدن مظلمة ، كتبناه لأن الصمت كان يقتلنا، ما ينقصنا ليس الموهبة بل زمن يؤمن بأن الشعر ضرورة لا ترف، تأثيرنا موجود لكنه هامس لأن الساحة تفضل الحكاية المباشرة الواضحة والثرثرة على الرمزية والتكثيف.
قصيدة النثر هنا حررتْ اللغة لكنها فقدت جمهورها ، الجيل الألفيني يعيش بلا آباء أدبيين بلا مؤسسات بلا ذاكرة مشتركة لذلك كل شاعر يكتب كما لو أنه آخر من بقي على قيد اللغة ،أما الرواية تقدمت نعم لكنها لا تقتل الشعر ، فقط تسرق الضوء منه ، أما الشعر والشاعر بطبيعتهم لا تستهويهم الأضواء .
في النهاية يبقى الشعر هو الأصل لكنه متعب يكتب في الظل بلا تصفيق وما ينقص هذا الجيل ببساطة هو من يسمعه .
قصيدة التثر نتاج تفاعلي .. حمزة الفلاح
الرسوخ ودرجة التأثير يثير انتباهي على الدوام هذا السؤال؛ خصوصًا إذا ما تعلق الأمر بقصيدة النثر، ويحيلني تلقائيًا إلى التفكير في هشاشتها ! ولكن ما الخطورة في أن تكون قصيدة النثر نصًا غير مرئي، أو بمعنى أدق كما تقترح تجريبية رولان بارت في اعتبارها أدبًا غير مكتمل. إن قصيدة النثر هي تقاطع الشاعر المنهجي مع أنواع الأدب الأخرى، هذا التقاطع الواعي بضرورة تجاوز اللغة بواسطة تدميرها، وهذا لا يعني أنها بذلك لا تحمل عناصر بنائها الخاصة، وإنما تعيد بتكرار نفسها المرة تلو المرة نضارتها بهدم بنيتها اعتمادًا على هذا التقاطع. كاتب قصيدة النثر بطبيعته قارئ منفتح على أبعاد تسبق عملية كتابتها، ويمارس الفطنة والتأويل بعيدًا عن النتيجة النهائية، ولا يهمه أن يكون متخصصًا، وهذا ما يستبعد عنه نمطية التفكير والشكل، وإن لم يكن كذلك فهو على أي حال بعيد عن هذه القصيدة. أن نرى في الموت حلمًا، وفي الغروب حزنًا ذهبيًا ذلك هو الشعر كما يقول بورخيس وفي علاقة هذا الشعر بالنثر الصارم والنثر الشعري والنثر السردي في أذهان الكثيرين مثالب معقدة في كون هذا النص ليس شعرًا خالصًا أو نثرًا خالصًا وهو إشكال التعريف الأكاديمي لهذه القصيدة بحد ذاتها بفضل النظرة الملتبسة التي تركتها على هامش التناقض والغموض، ففي الدراسات الحديثة تعد هذه الملاحظة شائعة ويفهم بذلك على «أن الشعر والنثر نوعان مختلفان جذريًا من الكتابة. وقد وُصف الشعر النثري أيضًا بأنه «قصيدة مكتوبة بالنثر بدلاً من الشعر العمودي، ويتميز كشكل باستفادته من عناصر النثر .. مع إبراز أدوات الشعر، ويُعرَّف بالنسبة للقصص القصيرة جدًا والقصة المصغرة، ويُقارن بالقصيدة الحرة، وفي هذا الصدد يقول المحرر والشاعر النثري بيتر جونسون: «تمامًا كما يمتد الغموض الأسود على الخط الفاصل بين الكوميديا والمأساة، يزرع الشعر النثري قدمًا في النثر والأخرى في الشعر، وكلا الكعبين يستندان بشكل غير مستقر على قشور الموز.[1]» ربما حقيقة هذا الغموض يستدعي تصورها مثل وحش أسطوري خيالي نصادق على وجوده دون أي صورة ثابتة بإمكاننا فحصها ومعاينتها، وربما هذا ما يميزها لأنها قصيدة إدراكية وحسطية قبل كل شيء كما يخبرنا جورج باركر: «مثل وحش بحيرة لوخ نِس، فإن قصيدة النثر مخلوقٌ لا نملك من وجوده سوى أدلةٍ شديدة الغموض. فأحيانًا يبدو أنها تظهر، في هيئة سلاسل من التموجات الملتفة، خارجةً من ديثيرامبات والت ويتمان؛ ويزعم عددٌ من النقّاد الفرنسيين أنهم التقطوا صورًا لهذا الكائن العجيب، بينما يحتفظ كثيرٌ من الشعراء الأمريكيين بتسجيلاتٍ صوتيةٍ لأناشيده التي يصدح بها من أعماق الخيال المُتحرر»1. والآن ماذا تبقى لنا من سؤال الرسوخ فالتفكير فيه أو في الفترة لا طائل منه، ولا يقدم شيئًا لهوية هذه القصيدة المطاردة على الدوام والمحكوم عليها بأن تصارع أوجه السلطة المتعددة..ما ينقصنا حقًّا هو فهم طبيعتها وتكثيف حضورها، ليس بالكتابة وحدها، الشعر في جوهره فنّ حرّ.
مرام القبلاوي
المشهد الشعري في هذا العصر متذبذب ويميل إلى الخفوت، سواء في الشعر التقليدي أو في قصيدة النثر. ومع هذا التراجع، استطاعت قصيدة النثر أن تمنح الشعراء مساحة أوسع للتعبير الصادق والاكتشاف والتجريب المستمر، وهي مزايا جعلت الشعراء أكثر حرية وتمسكًا بها. غير أن حضورها لدى عامة الناس غائب، إذ ما يزال كثير من المتلقين يميلون إلى الموسيقى الشعرية للشعر الموزون أكثر من اهتمامهم بعمق الفكرة وصدق التجربة. ومع ذلك، لا يمكن إنكار وجود شعراء كبار جمعوا بين جمال الشكل وثراء المضمون، ولا يزال شعرهم حاضرًا في ذاكرتنا حتى اليوم. ولأن قصيدة النثر بطبيعتها فكرية وتأملية، فقد ظل جمهورها محصورًا في النخبة من المثقفين والشعراء أنفسهم.
ما ينقص هذا الجيل الشعري هو الدعم المؤسسي والنقد الأدبي الجاد. وحتى إن كانت الطبيعة الشعرية الذاتية قادرة على تجاوز غياب الدعم، فإن غياب حركة نقدية مسؤولة جعل الشعراء الشباب يتخبطون بين أشباه الشعر وأشباه الشعراء، مما أفقد بعضهم الحس الشعري الأصيل. يحدث ذلك إمّا نتيجة العزوف أمام هذا السيل من القصائد الضعيفة، أو نتيجة محاولات التشبه بها وتكرار ما هو شائع وسهل الانتشار. لهذا يحتاج الجيل الحالي إلى نقد بناء يوجه التجربة ولا يقيدها.
في عصرنا الحالي، ليس الشعر وحده من يفقد وزنه الشعبي؛ حتى الرواية نفسها بدأت تخسر جمهورها أمام السينما والعروض التلفزيونية ذات الميزانيات الضخمة. لذلك فإن المقارنة بين الشعر والرواية تعد تقييمًا استهلاكيًا يتنافى مع طبيعة الفنون التي لا تُقاس بالجمهور بل بأثر التجربة. كما لا أرى بأسًا أن يكتب الشاعر الرواية ليستفيد من أدواتها السردية ومساحتها الأوسع للتعبير، أو حتى من جوائزها المادية الكثيرة. فالشعر في جوهره فنّ حرّ لا يرتبط بالمردود المادي، ومعظم الشعراء اليوم يمارسون وظائف أخرى. وهذا ليس عيبًا، بل ميزة تمنحهم استقلالية فكرية وفنية، وتجعل قصائدهم أكثر صدقًا وشفافية، بعيدة عن أي التزامات مؤسسية أو تجارية.



