
في بلدٍ يطلُ على واحدٍ من أجمل السواحل في البحر الأبيض المتوسط، يتحوّل الصيف إلى موسمٍ من الحسرة لا من الراحة.
فما يفترض أن يكون «متنفّسًا طبيعيًا» للمواطن الليبي، بل بات رفاهية لا يقدر عليها إلا من امتلك القدرة المالية.
الاصطيافُ ذلك الحق البسيط في الهروب من زحمة الحياة وضغوطات المعيشة، صار مشروطًا: بدفع مسبق، وأرقام تتجاوز القدرة، وسط صمتٍ رسمي مستفزّ.
الطاولات تُؤجَّر، الرمال تُباع، والماء يُسعَّر .. أما البحر، فقد أصبح لمن يدفع أكثر.
فأين حق المواطن البسيط في الراحة؟!، ومَنْ المسؤول عن حرمانه من أبسط حقوقه في «نقاهة الصيف»؟!.
وهل يُعقل أن يُصبح الهواء المالح .. تجارة موسمية؟
«البحر للناس الكل؟
لا .. البحر أصبح للأغنياء فقط!»
جملة تسمعها كثيرًا وأنتَ تتجوّل بين شواطئ ليبيا، من طرابلس إلى الخمس وزوارة وصبراتة، حيث أصبحت الاستراحات والشواطئ الخاصة حلمًا بعيد المنال للمواطن البسيط، حتى مجرد «كرسي وطاولة» تحت ظل شمسية باتت تكلف أكثر مما يتحمّله راتب الموظف ربّ الأسرة المكافح.
أسعار الصيف تحرق الجيوب !!
عند وصولكَ لأي مصيف خاص، تبدأ رحلة الدفع :
طاولة وكراسي: من 40 إلى 100 دينار.
دخول الشاطئ 15 دينارًا للشخص.
استراحة ليوم واحد: من300 إلى 1200 دينار.
حتى الهواء المالح بات مدفوع الأجر، وأبسط تفاصيل الراحة تحولتْ لرفاهية مادية لا يقدر عليها أغلب الليبيين.
أم يزيد – موظفة:
معاش نقدر نطلع نصّيف، عندي 3 أولاد، كل حاجة بفلوس، نحتاج ألف دينار على الأقل ليومين استجمام! حتى البحر، ملقيناش كيف نقعدوا فيه دون ما ندفعوا، وين نمشوا؟.
محمد – صاحب تاكسي
الشط مش ملك للدولة؟ علاش ندفع على رملة وهواء ربي؟ معاش فهمنا، البحر صاير للأغنياء بس، والفقير يقعد يشوف الصور في الفيس. مَنْ المسؤول عن الأسعار؟!
في غياب واضح للرقابة، تُترك الأسعار لأصحاب الاستراحات والكافيتيريات، الذين يفرضون ما يشاؤون دون حدود.
لا تسعيرة موحدة ولا ضوابط من وزارة السياحة، أو البلديات.
ويكتفي المسؤولون بالصمت، رغم النداءات اليومية من المواطنين عبر وسائل التواصل الاجتماعي والصحافة المحلية.
أحد العاملين بالسياحة «رفض ذكر اسمه»:
«المشكلة إن البحر أصبح مورد رزق لفئة معينة، والبلديات متواطئة أو عاجزة عن فرض تسعيرة تحمي المواطن، أين الشواطئ المجانية؟
رغم وجود شواطئ عامة، إلا أنها تعاني من:
- نقص النظافة
- غياب الأمن
- تكدّس وازدحام خانق
- غياب الخدمات الضرورية
بالتالي يُدفع المواطن دفعًا نحو المصايف الخاصة، رغم التكلفة المرتفعة.
زينب – ربة بيت
لما نطلع مع صغاري نغيّر جو، لكن نحتاج على الأقل 300 دينار ليوم واحد! هذا اسمه اصطياف؟ لا والله، هذا تعذيب نفسي البحر قدامي وأنا ما نقدرش نوصل له.
خالد – موظف حكومي
مرتي قالتلي نطلعوا يوم للبحر، حسبت حسبتي، لقيت راتبي ما يغطيش حتى الطاولة والعشة. فقلتلها: خليه الصيف يعدي ونقعدوا في الحوش أهون من الذّل.
خالد – طالب جامعي
كأنك تمشي لفندق خمس نجوم مش شط! كرسي 50 دينارًا، مافيش مكان بسيط للشباب نقعدوا فيه من غير ما يحسّونا إننا عبء.
علي يقول :
«كان زمان نطلّع العيلة ونشوي وندير جو، توه نحسبها عشرة مرات، الكرسي بفلوس، الموقف بفلوس، حتى رمل الشط صار محسوبًا عليك.. حرام والله.
شريفة – موظفة
ما فيش أماكن عامة نقدروا نرتاحوا فيها. لو نحاولوا نمشوا لشط مجاني، يا وسخ، يا زحمة، يا مشكلات. والخاص نار، شكون يقدر؟.
عمر – متقاعد:
الحكومة لازم تتحرك، وين وزارة السياحة؟ خليهم يشوفوا الوضع. البحر مش ملك خاص، هذا حق عام، لكن واضح إن حتى حقّنا نحرموا منه.
يسرى – أم لطفلين
«الأطفال يبّوا يلعبوا في البحر، وأنا نخاف عليهم، الشواطئ العامة مفيهاش أمن ولا مراقبة، نضطر نمشي للخاص ونرضى بالغلاء ولا نعرّض صغيورتي للخطر.
الخبير الاجتماعي د. عليى عمر :
الاصطياف مش رفاهية، هو حق نفسي وصحي لأي إنسان. اليوم، حُرم الليبي من هذا الحق البسيط، وهذا يخلق ضغطًا نفسيًا، ويزيد من تفكك الأسرة والضغوط اليومية. نحتاج تدخل حقيقي لضبط الأسعار وفتح شواطئ مجهزة وبالمجان للناس.
إلى متى ..؟!
الأسئلة تتكرَّر كل صيف:
لماذا يُسلب المواطنُ من حقه في البحر ؟!.
لماذا لا تُفتح شواطئ عامة نظيفة، وآمنة؟!.
مَنْ يضبط الأسعار ؟!.
ولماذا غابتْ الدولة عن حماية الفقير حتى في «نقاهة البحر»؟!.
صاحب استراحة وبلدية، مع موازنة الطرح لإبراز كل الأطراف، في وطن تحيطه البحار من كل الجهات، لم يعد المواطن يجد زاوية ظل، أو شبر رمل يرتاح فيه دون أن يُطالب بالدفع.
تحوّلت شواطئنا من فسحة للجميع إلى مشاريع تجارية لا يقدر عليها إلا الميسورون، وغابتْ الدولة عن حماية حق المواطن في الراحة والاصطياف كما غابتْ عن ضبط الأسعار وحماية قدرته الشرائية.
البحر لم يعد للجميع .. بل أصبح عنوانًا آخر للتمييز الطبقي في بلد يعاني أصلًا من أوجاعه الاقتصادية.
فهل ستبقى «نسمة البحر» حكرًا على الأغنياء؟!.
وهل يُعقل أن يُصبح مجرّد يوم صيفي حُلمًا مؤجلاً لدى المواطن البسيط ؟!.
إنه سؤال لا يطفو فقط على سطح الماء .. بل يغرق معنا كل صيف، دون إجابة..!!.