
اللغة كلها تأويل، اللغة بالمعنى العام هي نظام يقوم على التأويل، كل أفكارنا تُولد جمل صامتة في معامل عقولنا، ثم تصدر على ألسنتنا جملًا منطوقة عبر عملية تأويل أولى للفكرة، ومن هنا تختلف عقول النَّاس في قدرتها على إنتاج أفكارها وتختلف ألسنتهم في قدرتها على ترجمة هذه الأفكار الصامتة إلى ألفاظ منطوقة.
وكل ناطق بفكرة، هو عرضةٌ للشك في مدى نجاحه في دقة التعبير عن فكرته، وكل منا يضطر )ضرب الأمثلة( لشرح الفكرة لشعوره بأنه لم يكن دقيقًا في ترجمة فكرته الصامتة إلى فكرة منطوقة.
هنا تأتي مشروعية تأويل السامع، أو القاريء لما يسمع أو يقرأ، وله الحق في تأويل يفهم به تأويل صاحب الفكرة الأصلي.
من هنا تأتي عملية تفاوت فهم النصوص بين العقول في العصر والواحد، أو بين عدة عصور في المعنى الظاهر للنص، ولكل عقل وجهة نظره، ولكل عصر ثقافة السائدة تترجم النص وفق امكاناتها، فلا يكاد يوجد فهم، أو تفسير مطلق تقبله كل العقول بالدرجة نفسها من اليقين، ومن هذه الزاوية تصبح عملية التأويل جائزة عقلاً في النص القانوني، والنص الديني المقدس.
كل البشرية في أزمة فكرية، معظم القيم الكبرى لا نملك لها تعريفًا جامعًا مانعًا، ولا يوجد لها معنى ظاهر متفق عليه واضح؛ من تعريفات العدالة بأنها هي )حق الاقوى( تعريف فيه غموض وقابل للتأويل، ليس هذا فقط، بل ولا يوجد تعريف للقيم الثلاث المعروفة مثل: )الحق(، و)الخير(، و)الجمال(، وهل هذه القيم نسبيّْة أم مطلقة؟ لا يوجد تعريفٌ متفق عليه،بل توجد مجموعة من التأولات المتباينة.
المعنى الظاهر في أساسه هو تأويل لفكرة صامتة إلى فكرة منطوقة أو مكتوبة، ولذا عندما لا نجد ضالتنا في المعنى الظاهر من النص القانوني، أو الديني، أو لا يتسق مع الواقع، أو يتعارض معه، هنا يذهب العقل لتأويل النص حتى يؤول للواقع القائم يعني يتطابق معه .
التأويل ضرورة عقلية، عندما يصبح المعنى الظاهر للنص القديم لا يصدقه الواقع الجديد، إن التأويل هو محاولة لإحياء النص وجعله صالح لكل زمان ومكان، حتى يتمكن النص القديم من الصمود، ويتماشى مع الهدف المنشود.
سيطرتْ الفهم الظاهر، والتفسير الواحد للنص الديني، أو القانوني هو جمود، وموت للفكرة، كانت هناك نصوص قانونية قديمة تبيح العبودية، وقواعد وأعراف تحكم أسوق العبيد فقد يصبح الحق باطلًا، والعبد الأبق أصبح بطلًا حرًا لرفضه للعبودية .
إن الافكار كائنات حيَّة تنمو تتطور بنمو وتطور عقولنا في مراحل العمر المختلفة للفرد، وكذلك عبر العصور المختلفة من عمر الأمم.
في نظري الواقع هو شريك للعقل في التفسير، الواقع قد يفرض على العقل حكمه فيخضع العقل لنتائج التجربة العلمية يسلم بصحتها، ولعل السبب الرئيس في تقدم علوم التقنية هو إجراء التجربة، والتجربة ما هى إلا إستنطاق للواقع العملي بدل من إستنطاق العقل النظري.
إنّ الدافع من عملية التأويل هو مخالفة المعنى الظاهر للعقل؛ حيث يضطر العقل للبحث عن معنى عبر التأويل يؤول إلى تفسير يستجيب للضرورة العقلية والحقيقة الموضوعية، ولهذا نرى سلطة الواقع في المنهج التجريبي تضاهي سلطة العقل، أو تتفوق عليه.
عملية التأويل ليست خروجًا عن النص، أو العقل بل هى إضافة للعقل تعطيه مرونة في تفسير الثابت، والمتحوَّل بتأويل يجمع بينهما.
ولهذا لن تنهض أي أمة ما لم يتم تأويل نصوصها الدينية وتشريعاتها القانونية وبإنتاج فقه ديني، وقانوني معاصر يستجيب لمتطلبات عصرها.
الخلاصة : التأويل هو القابليةُ للتجديد، وعملية بعث مستمر للمعنى القديم الميت بمعنى جديد حيّْ .