ثقافة

في فلسفة التأويل

سميرة البوزيدي

اللغة‮ ‬‭ ‬كلها‭ ‬تأويل،‭ ‬اللغة‭ ‬بالمعنى‭ ‬العام‮ ‬‭ ‬هي‭ ‬نظام‭ ‬يقوم‭ ‬على‭ ‬التأويل،‭ ‬كل‭ ‬أفكارنا‭ ‬تُولد‭ ‬جمل‭ ‬صامتة‭ ‬في‭ ‬معامل‮ ‬‭ ‬عقولنا،‭ ‬ثم‮ ‬‭ ‬تصدر‮ ‬‭ ‬على‭ ‬ألسنتنا‭ ‬جملًا‭ ‬منطوقة‭ ‬عبر‭ ‬عملية‭ ‬تأويل‭ ‬أولى‭ ‬للفكرة،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تختلف‭ ‬عقول‭ ‬النَّاس‮ ‬‭ ‬في‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬إنتاج‭ ‬أفكارها‭ ‬وتختلف‭ ‬ألسنتهم‭ ‬في‮ ‬‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬ترجمة‭ ‬هذه‭ ‬الأفكار‮ ‬‭ ‬الصامتة‭ ‬إلى‭ ‬ألفاظ‭ ‬منطوقة‭.‬

وكل‭ ‬ناطق‭ ‬بفكرة،‭ ‬هو‭ ‬عرضةٌ‭ ‬للشك‭ ‬في‭ ‬مدى‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬دقة‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬فكرته،‭ ‬وكل‭ ‬منا‭ ‬يضطر‭ )‬ضرب‭ ‬الأمثلة‭( ‬لشرح‭ ‬الفكرة‭ ‬لشعوره‭ ‬بأنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬دقيقًا‭ ‬في‭ ‬ترجمة‭ ‬فكرته‭ ‬الصامتة‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬منطوقة‭.‬

هنا‭ ‬تأتي‭ ‬مشروعية‭ ‬تأويل‭ ‬السامع،‮ ‬‭ ‬أو‭ ‬القاريء‭ ‬لما‭ ‬يسمع‭ ‬أو‭ ‬يقرأ،‭ ‬وله‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬تأويل‭ ‬يفهم‭ ‬به‭ ‬تأويل‭ ‬صاحب‭ ‬الفكرة‭ ‬الأصلي‭. ‬

من‭ ‬هنا‭ ‬تأتي‭ ‬عملية‭ ‬تفاوت‭ ‬فهم‭ ‬النصوص‭ ‬بين‭ ‬العقول‭ ‬في‭ ‬العصر‭ ‬والواحد،‭ ‬أو‭ ‬بين‭ ‬عدة‭ ‬عصور‭ ‬في‮ ‬‭ ‬المعنى‭ ‬الظاهر‭ ‬للنص،‭ ‬ولكل‭ ‬عقل‭ ‬وجهة‭ ‬نظره،‭ ‬ولكل‭ ‬عصر‭ ‬ثقافة‭ ‬السائدة‭ ‬تترجم‭ ‬النص‭ ‬وفق‭ ‬امكاناتها،‭ ‬فلا‭ ‬يكاد‮ ‬‭ ‬يوجد‭ ‬فهم،‭ ‬أو‭ ‬تفسير‭ ‬مطلق‭ ‬تقبله‭ ‬كل‭ ‬العقول‭ ‬بالدرجة‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬اليقين،‭ ‬ومن‭ ‬هذه‭ ‬الزاوية‭ ‬تصبح‭ ‬عملية‭ ‬التأويل‭ ‬جائزة‭ ‬عقلاً‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬القانوني،‭ ‬والنص‭ ‬الديني‭ ‬المقدس‭.‬

كل‭ ‬البشرية‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬فكرية،‭ ‬معظم‭ ‬القيم‭ ‬الكبرى‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬لها‭ ‬تعريفًا‭ ‬جامعًا‭ ‬مانعًا،‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬لها‭ ‬معنى‭ ‬ظاهر‭ ‬متفق‭ ‬عليه‭ ‬واضح؛‭ ‬من‭ ‬تعريفات‭ ‬العدالة‭ ‬بأنها‭ ‬هي‭ )‬حق‭ ‬الاقوى‭( ‬تعريف‭ ‬فيه‭ ‬غموض‭ ‬وقابل‭ ‬للتأويل،‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬ولا‭ ‬يوجد‭ ‬تعريف‭ ‬للقيم‭ ‬الثلاث‭ ‬المعروفة‭ ‬مثل‭: )‬الحق‭(‬،‭ ‬و‭)‬الخير‭(‬،‭ ‬و‭)‬الجمال‭(‬،‭ ‬وهل‭ ‬هذه‭ ‬القيم‭ ‬نسبيّْة‭ ‬أم‭ ‬مطلقة؟‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬تعريفٌ‭ ‬متفق‭ ‬عليه،بل‭ ‬توجد‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬التأولات‭ ‬المتباينة‭.‬

المعنى‭ ‬الظاهر‭ ‬في‭ ‬أساسه‭ ‬هو‭ ‬تأويل‭ ‬لفكرة‭ ‬صامتة‭ ‬إلى‭ ‬فكرة‭ ‬منطوقة‭ ‬أو‭ ‬مكتوبة،‭ ‬ولذا‭ ‬عندما‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬ضالتنا‭ ‬في‭ ‬المعنى‭ ‬الظاهر‭ ‬من‭ ‬النص‭ ‬القانوني،‭ ‬أو‭ ‬الديني،‭ ‬أو‭ ‬لا‭ ‬يتسق‭ ‬مع‮ ‬‭ ‬الواقع،‭ ‬أو‭ ‬يتعارض‭ ‬معه،‭ ‬هنا‭ ‬يذهب‭ ‬العقل‭ ‬لتأويل‭ ‬النص‭ ‬حتى‭ ‬يؤول‭ ‬للواقع‭ ‬القائم‭ ‬يعني‭ ‬يتطابق‭ ‬معه‭ .‬

التأويل‭ ‬ضرورة‭ ‬عقلية،‭ ‬عندما‭ ‬يصبح‭ ‬المعنى‭ ‬الظاهر‭ ‬للنص‭ ‬القديم‭ ‬لا‭ ‬يصدقه‭ ‬الواقع‭ ‬الجديد،‭ ‬إن‭ ‬التأويل‭ ‬هو‭ ‬محاولة‭ ‬لإحياء‭ ‬النص‭ ‬وجعله‭ ‬صالح‭ ‬لكل‭ ‬زمان‭ ‬ومكان،‭ ‬حتى‭ ‬يتمكن‭ ‬النص‭ ‬القديم‭ ‬من‭ ‬الصمود،‭ ‬ويتماشى‭ ‬مع‭ ‬الهدف‭ ‬المنشود‭. ‬

سيطرتْ‭ ‬الفهم‭ ‬الظاهر،‭ ‬والتفسير‭ ‬الواحد‭ ‬للنص‭ ‬الديني،‭ ‬أو‭ ‬القانوني‭ ‬هو‭ ‬جمود،‭ ‬وموت‭ ‬للفكرة،‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬نصوص‭ ‬قانونية‭ ‬قديمة‭ ‬تبيح‭ ‬العبودية،‭ ‬وقواعد‭ ‬وأعراف‭ ‬تحكم‭ ‬أسوق‭ ‬العبيد‭ ‬فقد‭ ‬يصبح‭ ‬الحق‭ ‬باطلًا،‭ ‬والعبد‭ ‬الأبق‭ ‬أصبح‭ ‬بطلًا‭ ‬حرًا‭ ‬لرفضه‭ ‬للعبودية‭ .‬

إن‭ ‬الافكار‭ ‬كائنات‭ ‬حيَّة‭ ‬تنمو‭ ‬تتطور‭ ‬بنمو‭ ‬وتطور‭ ‬عقولنا‭ ‬في‭ ‬مراحل‭ ‬العمر‭ ‬المختلفة‭ ‬للفرد،‭ ‬وكذلك‭ ‬عبر‭ ‬العصور‭ ‬المختلفة‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الأمم‭.‬

في‭ ‬نظري‭ ‬الواقع‭ ‬هو‭ ‬شريك‭ ‬للعقل‭ ‬في‭ ‬التفسير،‭ ‬الواقع‭ ‬قد‭ ‬يفرض‭ ‬على‭ ‬العقل‭ ‬حكمه‭ ‬فيخضع‭ ‬العقل‭ ‬لنتائج‭ ‬التجربة‭ ‬العلمية‭ ‬يسلم‭ ‬بصحتها،‭ ‬ولعل‭ ‬السبب‭ ‬الرئيس‭ ‬في‭ ‬تقدم‭ ‬علوم‭ ‬التقنية‭ ‬هو‭ ‬إجراء‭ ‬التجربة،‭ ‬والتجربة‭ ‬ما‭ ‬هى‭ ‬إلا‭ ‬إستنطاق‭ ‬للواقع‭ ‬العملي‭ ‬بدل‭ ‬من‭ ‬إستنطاق‭ ‬العقل‭ ‬النظري‭. ‬

إنّ‭ ‬الدافع‭ ‬من‭ ‬عملية‭ ‬التأويل‭ ‬هو‭ ‬مخالفة‭ ‬المعنى‭ ‬الظاهر‮ ‬‭ ‬للعقل؛‭ ‬حيث‭ ‬يضطر‭ ‬العقل‭ ‬للبحث‭ ‬عن‭ ‬معنى‭ ‬عبر‭ ‬التأويل‭ ‬يؤول‭ ‬إلى‭ ‬تفسير‭ ‬يستجيب‭ ‬للضرورة‭ ‬العقلية‭ ‬والحقيقة‭ ‬الموضوعية،‭ ‬ولهذا‭ ‬نرى‭ ‬سلطة‭ ‬الواقع‭ ‬في‭ ‬المنهج‭ ‬التجريبي‭ ‬تضاهي‭ ‬سلطة‭ ‬العقل،‭ ‬أو‭ ‬تتفوق‭ ‬عليه‭.‬

عملية‭ ‬التأويل‭ ‬ليست‭ ‬خروجًا‭ ‬عن‭ ‬النص،‭ ‬أو‭ ‬العقل‭ ‬بل‮ ‬‭ ‬هى‭ ‬إضافة‭ ‬للعقل‭ ‬تعطيه‭ ‬مرونة‭ ‬في‭ ‬تفسير‭ ‬الثابت،‭ ‬والمتحوَّل‭ ‬بتأويل‭ ‬يجمع‭ ‬بينهما‭.‬

ولهذا‭ ‬لن‭ ‬تنهض‭ ‬أي‭ ‬أمة‮ ‬‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يتم‭ ‬تأويل‭ ‬نصوصها‭ ‬الدينية‭ ‬وتشريعاتها‭ ‬القانونية‭ ‬وبإنتاج‭ ‬فقه‭ ‬ديني،‭ ‬وقانوني‭ ‬معاصر‭ ‬يستجيب‭ ‬لمتطلبات‭ ‬عصرها‭.‬

الخلاصة‭ :‬‭ ‬التأويل‭ ‬هو‭ ‬القابليةُ‭ ‬للتجديد،‭ ‬وعملية‭ ‬بعث‭ ‬مستمر‭ ‬للمعنى‭ ‬القديم‭ ‬الميت‭ ‬بمعنى‭ ‬جديد‭ ‬حيّْ‭ .‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى