ثقافة

قراءة في كتاب أقفاص فارغة

إنتصار بوراوي

الشاعرة‭ ‬المصرية‭ ‬‮«‬فاطمة‭ ‬قنديل‮»‬،‭ ‬أ‭.‬‭ ‬مساعد‭ ‬للنقد‭ ‬الأدبي‭ ‬الحديث‭ ‬بقسم‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬شاعرة‭ ‬لها‭ ‬بصمةٌ‭ ‬في‭ ‬شعراء،‭ ‬وشاعرات‭ ‬جيل‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬فلقد‭ ‬أصدرتْ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬دواوين‭ ‬شعرية،‭ ‬وحصلتْ‭ ‬على‭ ‬درجتي‭ ‬‮«‬الماجستير‭ ‬والدكتوراة‮»‬‭ ‬عن‭ ‬أطروحتين‭ ‬جامعيتين‭ ‬ومنذ‭ ‬مدة‭ ‬صدرتْ‭ ‬روايتها‭ ‬الأولى‭ ‬‭)‬أقفاص‭ ‬فارغة‭(‬‭ ‬عن‭ ‬دار‭ ‬الكتب‭ ‬خان،‭ ‬وتروي‭ ‬هذه‭ ‬الرواية‭ ‬سيرة‭ ‬شبه‭ ‬ذاتية‭ ‬عن‭ ‬قصة‭ ‬حياتها‭ ‬وعلاقتها‭ ‬بعائلتها،‭ ‬تحديدًا‭ ‬الأم‭ ‬والإخوة‭ ‬الذكور،‭ ‬والأزواج‭. ‬

وربما‭ ‬أول‭ ‬ما‭ ‬يلفت‭ ‬في‭ ‬الرواية‭ ‬هو‭ ‬عنوانها‭ ‬المتضاد‭ ‬‭)‬أقفاص‭ ‬فارغة‭(‬،‭ ‬فالقفص‭ ‬يرمزُ‭ ‬للقيد،‭ ‬والاحتجاز،‭ ‬والحرمان‭ ‬من‭ ‬الحرية،‭ ‬بينما‭ ‬فراغها‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬تحرَّر‭ ‬الشخص‭ ‬من‭ ‬القفص؛‭ ‬ولكن‭ ‬بقى‭ ‬كرمزٍ‭ ‬للقيد،‭ ‬الذى‭ ‬أراد‭ ‬احتجاز‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬داخل‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأقفاص‭ ‬قفص‭ ‬ذكور‭ ‬العائلة،‭ ‬قفص‭ ‬الحب،‭ ‬قفص‭ ‬الزواج،‭ ‬كلها‭ ‬أقفاص‭ ‬جمعتها‭ ‬الكاتبة‭ ‬في‭ ‬عنوان‭ ‬متضاد‭ ‬ورمزتْ‭ ‬إليها‭ ‬بعنوان‭ ‬لافت‭ ‬ويحمل‭ ‬دلالات‭ ‬متضادة‭ ‬ليرمز‭ ‬إلى‭ ‬مضمون‭ ‬الرواية‭ ‬ودلالتها‭ ‬السردية‭. ‬

في‭ ‬‭)‬أقفاص‭ ‬فارغة‭(‬،‭ ‬تتخلى‭ ‬الشاعرةُ‭ ‬فاطمة‭ ‬قنديل‭ ‬عن‭ ‬لغتها‭ ‬الشعرية‭ ‬المعهودة،‭ ‬وتتعقب‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياة‭ ‬أسرة‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬المتوسطة،‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬سيرة‭ ‬حياة‭ ‬عائلتها‭ ‬وتصوّر‭ ‬الكاتبة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية‭ ‬لشخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬سرد‭ ‬دقيق،‭ ‬لتفاصيل‭ ‬عائلية‭ ‬من‭ ‬إصابة‭ ‬والدتها‭ ‬بمرض‭ ‬السرطان،‭ ‬وما‭ ‬تلا‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬مشاعر‭ ‬الخوف‭ ‬والرعب،‭ ‬التي‭ ‬سيطرتْ‭ ‬عليها‭ ‬في‭ ‬مواجهتها‭ ‬لهذا‭ ‬المرض‭ ‬الشرس‭ ‬ورغم‭ ‬الألم‭ ‬الذي‭ ‬يفيض‭ ‬من‭ ‬صفحات‭ ‬الرواية،‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬السرد‭ ‬الممتع‭ ‬يغطي‭ ‬مراحل‭ ‬زمنية‭ ‬طويلة،‭ ‬تمتد‭ ‬منذ‭ ‬بداية‭ ‬الستينيات‭ ‬وحتى‭ ‬الألفية‭ ‬الجديدة،‭ ‬مقدمًا‭ )‬بانوراما‭ ‬شاملة‭(‬‭ ‬لعائلة‭ ‬مصرية‭ ‬من‭ ‬الطبقة‭ ‬الوسطى،‭ ‬وما‭ ‬تعرضتْ‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬هزات‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية‭ ‬على‭ ‬مدار‭ ‬العقود‭ ‬المتتالية‭. ‬

تبدأ‭ ‬الرواية‭ ‬بذكريات‭ ‬الطفولة‭ ‬مع‭ ‬الوالدين‭ ‬والعائلة،‭ ‬ثم‭ ‬يتطور‭ ‬السرد‭ ‬الروائي‭ ‬لينتقل‭ ‬إلى‭ ‬مراحل‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭.‬

تعمل‭ ‬الروائية‭ ‬على‭ ‬تعّرية‭ ‬المشاعر‭ ‬والأحاسيس‭ ‬بعمق‭ ‬وصراحة‭ ‬كاشفة‭ ‬حقيقة‭ ‬علاقات‭ ‬الإخوة‭ ‬والعائلة‭ ‬والأقارب،‭ ‬التي‭ ‬تسقط‭ ‬جميعها‭ ‬في‭ ‬امتحان‭ ‬مرض‭ ‬الأم‭.‬

وتتجلى‭ ‬القسوةُ‭ ‬الإنسانية‭ ‬بكل‭ ‬بشاعتها،‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تخلي‭ ‬الأخ‭ ‬عن‭ ‬دفع‭ ‬مصاريف‭ ‬العلاج‭ ‬الكيماوي‭ ‬لوالدته،‭ ‬وسفره‭ ‬وتخليه‭ ‬عن‭ ‬والدته‭ ‬وأخته‭ ‬في‭ ‬محنة‭ ‬المرض‭ ‬الشرس‭. ‬

وتروي‭ ‬سردية‭ ‬الرواية‭ ‬عودة‭ ‬الأخ‭ ‬الأكبر‭ ‬بعد‭ ‬عشرين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬سفره،‭ ‬وانقطاع‭ ‬أخباره‭ ‬عن‭ ‬العائلة‭ ‬تاركًا‭ ‬قلب‭ ‬والدته‭ ‬يحترق‭ ‬لغيابه‭ ‬حتى‭ ‬وفاتها‭.‬

ويتنقل‭ ‬السرد‭ ‬الروائي‭ ‬ببراعة‭ ‬بين‭ ‬زمن‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬إلى‭ ‬القرن‭ ‬ستينيات‭ ‬المد‭ ‬القومي‭ ‬والنكسة،‭ ‬وسبعينيات‭ ‬الانفتاح‭ ‬الاقتصادي‭ ‬وأثره‭ ‬على‭ ‬الطبقة‭ ‬المتوسطة،‭ ‬ويتدفق‭ ‬السرد‭ ‬الروائي‮ ‬‭ ‬ليرصد‭ ‬كل‭ ‬المشاعر‭ ‬القاسية‭ ‬والمؤلمة،‭ ‬من‭ ‬تخلي‭ ‬الإخوة‭ ‬والأقارب،‭ ‬ثم‭ ‬مرض‭ ‬الأم‭ ‬وفقدان‭ ‬البيت‭ ‬نتيجة‭ ‬انتقالهم‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬إلى‭ ‬أخرى،‭ ‬والعلاقة‭ ‬المضطربة‭ ‬القائمة‭ ‬على‭ ‬العنف‭ ‬والاستغلال‭ ‬من‭ ‬الزوج،‭ ‬فكل‭ ‬تلك‭ ‬الظروف‭ ‬القاسية‭ ‬حملتها‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬كثقل‭ ‬فوق‭ ‬أكتافها‭ ‬وفي‭ ‬قلبها‭ ‬ومع‭ ‬ذلك،‭ ‬لم‭ ‬يكسرها‭ ‬هذا‭ ‬الثقل،‭ ‬أو‭ ‬يحطمها‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬قوة‭ ‬سيرة‭ ‬الرواية‭ ‬وعظمتها؛‭ ‬فبالرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الظروف‭ ‬القاهرة‭ ‬التي‭ ‬عاشتها‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية،‭ ‬إلا‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تتخلْ‭ ‬عن‭ ‬والدتها‭ ‬كما‭ ‬فعل‭ ‬إخوتها‭ ‬الذكور‭ ‬الذين‭ ‬خذلوها‭ ‬وخذلوا‭ ‬والدتهم‭ ‬في‭ ‬محنة‭ ‬مرضها‭. ‬

وإنما‭ ‬استمرت‭ ‬مساندة‭ ‬وداعمة‭ ‬لوالدتها،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬خدمتها‭ ‬أثناء‭ ‬مرضها‭ ‬وحتى‭ ‬آخر‭ ‬رمق‭ ‬في‭ ‬حياتها،‭ ‬كما‭ ‬تصف‭ ‬علاقتها‭ ‬بها‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقطع‭ ‬من‭ ‬الرواية‭:‬

‭)‬أدركتُ‭ ‬أنّني‭ ‬أريدُ‭ ‬أن‭ ‬أستعيدها،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬السيدة‭ ‬النائمة‭ ‬طوال‭ ‬الوقت‭ ‬تشبه‭ ‬أمي،‭ ‬حتى‭ ‬حين‭ ‬كنتُ‭ ‬أضع‭ ‬رأسي‭ ‬على‭ ‬صدرها‭ ‬لألعب‭ ‬دور‭ ‬طفلتها‭(. ‬

في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬واصلت‭ ‬البطلة‭ ‬تحقيق‭ ‬حلمها‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬والدراسة‭ ‬الجامعية،‭ ‬واستطاعت‭ ‬التحقق‭ ‬كشاعرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬كتابة‭ ‬قصائدها‭ ‬وإصداراتها‭ ‬الشعرية،‭ ‬كافحتْ‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إنجاز‭ ‬رسالتي‭ ‬الماجستير‭ ‬والدكتوراه،‭ ‬وأصبحتْ‭ ‬أستاذة‭ ‬جامعية،‭ ‬وقهرتْ‭ ‬كل‭ ‬الظروف‭ ‬وتخلصتْ‭ ‬من‭ ‬علاقاتها‭ ‬السامة‭ ‬مع‭ ‬أقرب‭ ‬الأقربين،‭ ‬و‭ ‬تحرَّرتْ‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأقفاص،‭ ‬قفص‭ ‬ذكور‭ ‬العائلة،‭ ‬وقفص‭ ‬الحب‭ ‬المخذول‭ ‬من‭ ‬الأزواج‭ ‬الذين‭ ‬خذلوها‭ ‬بعد‭ ‬ارتباطها‭ ‬بهم،‭ ‬وقفص‭ ‬ثقل‭ ‬المجتمع‭ ‬وعاداته‭ ‬وتقاليده‭ ‬الرّثة،‭ ‬وحققت‭ ‬ذاتها‭ ‬بإرادتها‭ ‬وصبرها‭ ‬وقوتها،‭ ‬التي‭ ‬استمدتها‭ ‬من‭ ‬شخصية‭ ‬والدتها‭ ‬الوحيدة‭ ‬التي‭ ‬رافقتها‭ ‬طيلة‭ ‬مشوار‭ ‬حياتها‭ ‬ولم‭ ‬تخذل‭ ‬رفقتها‭ ‬معها،‭ ‬ولم‭ ‬يأخذها‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬الموت‭. ‬

رواية‭ ‬‭)‬أقفاص‭ ‬فارغة‭(‬،‭ ‬التي‭ ‬حصلتْ‭ ‬على‭ ‬جائزة‭ ‬نجيب‭ ‬محفوظ‭ ‬للأدب‭ ‬من‭ ‬الجامعة‭ ‬الأمريكية‭ ‬بالقاهرة،‭ ‬هي‭ ‬رواية‭ ‬كشف‭ ‬وشجاعة‭ ‬في‭ ‬تعرية‭ ‬الذات‭ ‬الإنسانية‭ ‬المتقلبة‭ ‬بين‭ ‬الأنانية‭ ‬وحب‭ ‬الذات‭ ‬والاستغلال‭ ‬الإنساني‭ ‬وخذلان‭ ‬أقرب‭ ‬الأقربين،‭ ‬بأسلوب‭ ‬سردي‭ ‬واقعي،‭ ‬تتلاقى‭ ‬فيه‭ ‬ثنائية‭ ‬القيد‭ ‬الذى‭ ‬يرمز‭ ‬إليه‭ ‬بالأقفاص‭ ‬الفارغة‭ ‬من‭ ‬الدفء‭ ‬والمحبة،‭ ‬ومنها‭:‬

‭ ‬قفص‮ ‬‭ ‬ذكور‭ ‬العائلة‭ ‬الأنانيين،‭ ‬قفص‭ ‬الحب‭ ‬المخذول،‭ ‬قفص‭ ‬الزيجات‭ ‬الفاشلة،‭ ‬قفص‭ ‬الذكريات‭ ‬المؤلمة‭ ‬كلها‭ ‬قيود‭ ‬حاصرت‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية،‭ ‬ولكن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الأقفاص‭ ‬أصبحتْ‭ ‬فارغة‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬لها،‭ ‬بعد‭ ‬طول‭ ‬مجاهدة‭ ‬ومكابدة،‭ ‬وتحرّر‭ ‬الطائر‭ ‬منها‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬بطلة‭ ‬الرواية‭ ‬وكاتبتها‭ ‬التي‭ ‬كتبتْ‭ ‬تفاصيلها‭ ‬في‭ ‬روايتها‭ ‬التي‭ ‬رصدت‭ ‬فيه‭ ‬تفاصيل‭ ‬رحلة‭ ‬الألم‭ ‬إلى‭ ‬منتهاه‭ ‬كي‭ ‬تتخلص‭ ‬من‭ ‬ثقله‭ ‬في‭ ‬روحها،‭ ‬وتتحرّر‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الأقفاص‭ ‬التي‭ ‬أرادت‭ ‬تكبيل‭ ‬روحها‭ ‬الحرة‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى