ثقافة

قراءة في كتاب المنفى الذهبي.. بالبو  في ليبيا.. أضواء وظلال 

تطالعنا دار  «الفرجاني» العريقة بين الفينة والأخرى بأهم المصادر التاريخية الليبية سواء أ كان على صعيد التأليف والطباعة أم على صعيد الترجمة، وهذا الكتاب (المنفى الذهبي) لكاتبه الدكتور مصطفى رجب يونس الأستاذ في قسم التاريخ بجامعة طرابلس كلية الآداب والمتخصَّص في التاريخ السياسي والاجتماعي المعاصر يعد أيضا من الكتب المنتمية إلى حقل الدراسات التاريخية الليبية والذي سيكون إضافة إلى المكتبة التاريخية. 

ولكن ما يميز هذا الكتاب أنه كُتب بنسختين نسخة باللغة الإيطالية وأخرى باللغة العربية، وهو كتاب ليس مترجماً لأن النسختين لنفس الكاتب، فلم تتدخل أدوات المترجم على هذا الكتاب لتغيّر جملة او تستبدل عبارة أو فكرة، وهنا تكمن أهمية هذا الإنجاز فالكاتب دوّن نفس الأفكار ونفس المادة بكلتا اللغتين، وفي حين أن الكاتب يجيد اللغة الإيطالية فذلك بلا شك ساعده في الاطلاع على المصادر الإيطالية حول الموضوع ناهيك على اطلاعه على المصادر الليبية والعربية 

ولكن كما صرح في مقدمته فإن هذا الكتاب يتبنى وجهة النظر الليبية حول الموضوع وهذا مما أثار الباحثين في التاريخ في الجامعات الإيطالية، لأنهم يفتقرون إلى مثل هذه الموضوعات التي من شأنها نقل وجهة نظر الآخر الذي كان ضمن سياق مستعمراتهم، بل مثل أكبر المستعمرات التابعة لهم، وهذا موضوع شديد الأهمية لما له من دور أساسي في توضيح الحقائق التي كانت غائبة عنهم، والتوصل إلى نتائج مختلفة عما كانت عليه عندما كانت وجهة النظر المستعمَرة طي الكتمان، وهذا بالتحديد هو الدافع الذي حرّك قلم الكاتب المؤرخ مصطفى يونس، بالإضافة إلى الإحاطة بكل جوانب الموضوع في فترة حكم إيتالو بالبو ليبيا، الأمر الذي ساعد على معالجة الصورة النمطية الشائعة حول هذه الشخصية التي حققت نجاحاً دولياً واعتبارها صديقة لليهود والعرب معاً 

ففي تقديمه للكتاب يوضح أندريا بارافيللي أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة فيرارا حقيقة تلك النظرة الأسطورية و ينهي تقديمه بعبارة يقول فيها: ((في سياق الكتاب الذي بين أيدينا، سيجد القارئ إجابات مقنعة، وربما الأهم من ذلك أسئلة مبتكرة (والتي نأمل أن يتم مستقبلا الاستعانة بالعديد من الدراسات للإجابة عنها)؛ فمن خلال المساهمة في توضيح عمل حاكم ليبيا بين عامي: 1934، 1940 يساعدنا هذا الكتاب على وضع الاستعمار الإيطالي في المنظور الصحيح)) ص 14. 

ومن الجدير بالذكر أن هذا الكتاب لم يكن لسرد الوقائع فقط، بل كان للمنهج التحليلي الذي اتبعه الكاتب في تدوينته التاريخية دور في إبراز كنه الموضوع، وذلك بتعزيزه بجملة من التساؤلات التي افترضها وحاول أن يجيب عنها من خلال المادة التاريخية التي استند عليها، تلك المحفوظة في أرشيف الدولة المركزي في روما، وفي أرشيف وزارة إفريقيا الإيطالية سابقاً وباستشارة الوثائق المحفوظة في المركز الوطني للدراسات التاريخية بطرابلس مع الاهتمام أيضاً بدراسات الأدب التأريخي الغربي لا سيما الإيطالي، تلك التساؤلات التي استقاها الكاتب من بيئته والتي كان معظمها تدور في ذهن العديد من الليبيين كون الكاتب دارساً وباحثاً ليبياً تناول الموضوع ولم يقم بترجمته عن الكولونيال الإيطالي بخلاف بعض الكتب الصادرة قبله، ومما يُشهد له أن الكاتب حاول توضيح وجهتي النظر حول الفترة التي حكم فيها بالبو (الإيطالية والليبية) في محاولة منه عقد مقارنة بين الأنا والآخر، المستعمِر والمستعمَر، لتوضيح وإيصال مبدأ الشعور الجمعي الليبي بتلك المرحلة التي تتأسس على نبذ الاحتلال وهذا النوع من الكتب يدخل ضمن الدراسات ما بعد الكولونيالية. 

إن المنفى الذهبي عنوان الكتاب كما أطلقه عليه مؤلفه نابع من تسمية إيتالو بالبو حاكماً لليبيا تنفيذاً للخطاب الموجه له من قبل بينيتو موسوليني في 31 أكتوبر 1933 والتي تحمل أمراً منه بتعيينه حاكماً لليبيا بديلاً عن المارشال بيترو بادوليو الذي أنهى فترة حكمه بعد خمس سنوات من توليه. 

ولا شك أن اختيار بالبو لهذه المهمة أنه من جهة كان أحد أقطاب الفاشية الإيطالية آنذاك و من جهة أخرى كان منافساً قوياً لموسوليني، ونداًّ غير موثوق به، فكان قرار تعيينه بمثابة منفى يتم من خلاله تهميشه من الحياة السياسة الإيطالية ويجعله بعيدا عن موقع القرار القائم في (روما). 

إن القارئ لكتاب المنفى الذهبي سيتعرف من خلال قراءته للكتاب على كل تفاصيل الحياة العامة في ليبيا أثناء فترة إيتالو بالبو، هذه الحياة تمثلت في عدة فصول، حيث تطرّق الكتاب إلى المشاريع العمرانية وكافة الأنظمة الصحية والسياحية والثقافية والفنية والتعليمية التي شجعت على تعليم الفتيات، كما تعرّض إلى موقف الحكومة الاستعمارية من الدين الاسلامي والإصلاحات التي روّجت لصالح المؤسسات الدينية آنذاك، كما تناول الكتاب نظرة بالبو إلى القيم الدينية الإسلامية ومحاولته رأب الصدع والسعي إلى المصالحة مع الليبيين ووعدهم بأن تكون حكومته داعمة للمسار السلمي في البلاد ومؤيدة لجملة من الإصلاحات الاجتماعية وبعث الأمل فيهم من خلال مبدأ التعاون بين السكان الأصليين للبلاد والمستوطنين الإيطاليين، على اعتبار أن الوطن الأم هو إيطاليا وأن ليبيا هي الشاطئ الرابع لها، فكان فطنا وحذراً في تعامله مع السكان المحليين لكسب ثقتهم ولإنجاح مشروعه الاستيطاني. 

وقد حرص الكاتب على دعم توثيقه وتدوينته التاريخية بعرض مجموعة من الصور التي تؤكد على ما جاء من معلومات بين دفتي هذا السجل التاريخي لمرحلة مهمة مرّت بها هذه البلاد وذلك بطرح تحليلي موضوعي استقصائي في اشتغاله على سجلّات التاريخ. 

وأعتقد أن الكاتب لخص وجهة نظره حول هذه الشخصية في الاستنتاجات التي ذيّل بها كتابه والتي ركز فيها على الهدف الذي كان يضعه «بالبو» بل تضعه الحكومة الاستعمارية لبسط السيطرة على هذه البقعة من الأرض، الأمر الذي يضعنا في موقف المواربة والشك من صدق النوايا، ويضع أمامنا حتمية الرؤية الواحدة لدى الشعوب للمبدأ الكولونيالي.

ومن هنا كان هذا الكتاب محاورًا جيدًا و مفيدًا للآخر ورسالة لتوصيل مبدأ إنساني هو حق أصيل للشعب الليبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى