ثقافة

تمثال أبوالهول

إنتصار أبوراوي

استقبلها‭ ‬عاملُ‭ ‬الاستقبال‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬عملها‭ ‬بوجهه‭ ‬العبوس‭ ‬الجامد،‭ ‬لا‭ ‬تدري‭ ‬لماذا‭ ‬بدأ‭ ‬لها‭ ‬مثل‭ ‬تمثال‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الهول‮»‬،‭ ‬فمنذ‭ ‬أنَّ‭ ‬عملتْ‭ ‬بالمؤسَّسة‭ ‬قبلَ‭ ‬عشرِ‭ ‬سنواتٍ،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مكانه‭ ‬بالوجِهِ‭ ‬نفسِهِ‭ ‬والجمودِ،‭ ‬والصَّمتِ‭ ‬نفسهِ،‭ ‬حتى‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬تذكر‭ ‬أبدًا‭ ‬بأنها‭ ‬سمعتْ‭ ‬صوته‭. ‬

تركتْ‭ ‬تمثالَ‭ ‬‮«‬أبو‭ ‬الهول‮»‬‭ ‬في‭ ‬الطابقِ‭ ‬السِّفليِّ‭ ‬منَ‭ ‬المؤسَّسة‭ ‬وارتقتْ‭ ‬إلى‭ ‬الدور‭ ‬الثاني‭ ‬حيث‭ ‬مكتبها‭ ‬رفقة‭ ‬زميلات‭ ‬العمل،‭ ‬كانت‭ ‬الأجواءُ‭ ‬داخل‭ ‬وخارج‭ ‬المؤسَّسة‭ ‬مشحونةً‭ ‬بالتوتر،‭ ‬فخبر‭ ‬انهيار‭ ‬نظام‭ ‬حسني‭ ‬مبارك‭ ‬هو‭ ‬الحديث‭ ‬الذي‭ ‬تتهامس‭ ‬به‭ ‬كل‭ ‬زميلات‭ ‬العمل،‭ ‬وثمة‭ ‬همسٌ‭ ‬خافتٌ‭ ‬بينهنَّ‭ ‬بأن‭ ‬هناكَ‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الشباب‭ ‬بالمدينة‭ ‬يخططون‭ ‬للخروج‭ ‬فى‭ ‬مظاهراتٍ‭ ‬عارمة‭ ‬خلال‭ ‬اليومين‭ ‬القادمين‭. ‬

جوُّ‭ ‬العملِ‭ ‬مشحونٌ‭ ‬بالترقب،‭ ‬والخوف،‭ ‬والهمس‭ ‬مع‭ ‬مراقبة‭ ‬المكان‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬العسس،‭ ‬وحاملي‭ ‬الأخبار‭. ‬

في‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني؛‭ ‬وبينما‭ ‬كانت‭ ‬حافلة‭ ‬العمل‭ ‬تنهب‭ ‬الأرض‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬مبنى‭ ‬المؤسسة‭ ‬وسط‭ ‬صمتٍ‭ ‬مريبٍ‭ ‬في‭ ‬الطرقات‭ ‬وحركة‭ ‬سيارات‭ ‬خفيفة‭ ‬جدًّا،‭ ‬الناس‭ ‬قرَّروا‭ ‬عدمَ‭ ‬الخروجِ‭ ‬من‭ ‬منازلهم‭ ‬لإدراكهم‭ ‬بأن‭ ‬ثمة‭ ‬شيئًا‭ ‬ما‭ ‬سيحدث‭ ‬في‮ ‬‭ ‬اليوم‭ ‬الموعود‭. ‬

عند‭ ‬الساعة‭ ‬العاشرة‭ ‬علا‭ ‬صوت‭ ‬الضوضاء‭ ‬في‭ ‬الشارع،‭ ‬ووصلت‭ ‬إلى‭ ‬مسامعها‭ ‬أصوات‭ ‬هتافات‭ ‬الشباب‭ ‬العالية،‭ ‬لم‭ ‬تصدِّق‭ ‬أذنيها‭ ‬وهي‭ ‬تسمع‭ ‬هتاف‭ )‬الشعب‭ ‬يريد‭ ‬إسقاط‭ ‬النظام‭(. ‬

ارتجف‭ ‬جسدها‭ ‬من‭ ‬شجاعة‭ ‬العبارات‭ ‬التى‭ ‬اخترقت‭ ‬وزعزعت‭ ‬أربعين‭ ‬عامًا‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬الخوف‭ ‬والصمت‭ ‬وهب‭ ‬الذعر‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬المؤسسة،‭ ‬وجاء‭ ‬أحد‭ ‬أفراد‭ ‬الإدارة‭ ‬ليخبرهم‭ ‬بأن‭ ‬المؤسسة‭ ‬ستقفل‭ ‬أبوابها‭ ‬وعلى‭ ‬الموظفين‭ ‬والموظفات‭ ‬الخروج‭ ‬والعودة‭ ‬لبيوتهم‭. ‬

في‭ ‬طريق‭ ‬عودتها‭ ‬رأت‭ ‬جموع‭ ‬الشباب‭ ‬وهم‭ ‬يهتفون‭ ‬بصوتٍ‭ ‬عالٍ،‭ ‬وسيارات‭ ‬الأمن‮ ‬‭ ‬تملأ‭ ‬الشوارع،‭ ‬وكادت‭ ‬إحدى‭ ‬سيارات‭ ‬الشرطة‭ ‬أن‭ ‬تصطدم‭ ‬بحافلة‭ ‬العمل‭ ‬لولا‭ ‬حنكة‭ ‬السائق،‭ ‬الشوارع‭ ‬خالية‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬جموع‭ ‬الشباب‭ ‬الذين‭ ‬خرجوا‭ ‬زرافاتٍ‭ ‬هاتفين‭ ‬بالعبارات‭ ‬المزلزلة‭. ‬

حين‭ ‬وصلت‭ ‬للبيت،‭ ‬فتحت‭ ‬شاشة‭ ‬التلفزيون‭ ‬لمتابعة‭ ‬آخر‭ ‬التطورات؛‭ ‬كانت‭ ‬الأمور‭ ‬تحتدم‭ ‬وتزداد‭ ‬شراسةً،‭ ‬والرصاص‭ ‬أصبح‭ ‬يصطاد‭ ‬الشبابَ‭ ‬كالعصافير،‭ ‬كان‭ ‬منظر‭ ‬الشباب‭ ‬وهم‭ ‬يتساقطون‭ ‬أمام‭ ‬الكتيبة‭ ‬كعصافير‭ ‬لا‭ ‬حول‭ ‬لهم‭ ‬ولا‭ ‬قوة،‭ ‬يزيد‭ ‬من‭ ‬لهيب‭ ‬الغضب‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الناس‭. ‬

سقطت‭ ‬الكتيبة‭ ‬الأمنية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحصد‭ ‬برصاصها‭ ‬الشباب‭ ‬المتظاهرين‭ ‬السلميِّين،‭ ‬وفر‭ ‬من‭ ‬مطار‭ ‬بنغازي‭ ‬ابن‭ ‬حاكم‭ ‬البلاد،‭ ‬وقام‭ ‬الشباب‭ ‬بفعل‭ ‬الغضب‭ ‬بحرق‭ ‬مقرَّات‭ ‬اللجان‭ ‬الثورية‭ ‬ومقرَّات‭ ‬الشرطة،‭ ‬وأصبحت‭ ‬بنغازي‭ ‬خارج‭ ‬سلطة‭ ‬حاكم‭ ‬البلاد‭. ‬

خرجت‭ ‬الجموع‭ ‬متوجهةً‭ ‬نحو‭ ‬محكمة‭ ‬المدينة‭ ‬حيث‭ ‬نُصبت‭ ‬منصةٌ‭ ‬لتداول‭ ‬آخر‭ ‬الأخبار‭ ‬عنِ‭ ‬الثورة،‭ ‬خرجت‭ ‬هي‭ ‬أيضًا‭ ‬مع‭ ‬أخيها‭ ‬لمعاينة‭ ‬ما‭ ‬حدث‭ ‬للمدينة‭ ‬بعد‭ ‬الأيَّام‭ ‬الدامية‭ ‬التي‭ ‬اضطرت‭ ‬فيها‭ ‬العائلات‭ ‬للبقاء‭ ‬في‭ ‬البيوت،‭ ‬وتركت‭ ‬الأمور‭ ‬لأبنائها‭ ‬كي‭ ‬تشعل‭ ‬الثورة‭ ‬وتسيطر‭ ‬على‭ ‬المدينة،‭ ‬كانت‭ ‬الأفراح‭ ‬والأهازيج‭ ‬والضحكات،‭ ‬وحشود‭ ‬السيارات‭ ‬الممتلئة‭ ‬بالعائلات‭ ‬المبتهجة‭ ‬تملأ‭ ‬شوارع‭ ‬المدينة،‭ ‬كان‭ ‬الفرح‭ ‬فقط‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬سيطر‭ ‬على‭ ‬مشاعر‭ ‬الجموع‭ ‬دون‭ ‬إدراك‭ ‬لما‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الأيَّام‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬ردة‭ ‬فعل‭ ‬عنيفة‭ ‬ومرعبة‭. ‬

مرَّتْ‭ ‬بشارع‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬فرأتْ‭ ‬جموعًا‭ ‬منَ‭ ‬الشبابِ‭ ‬تقوم‭ ‬بضرب‭ ‬تمثال‭ ‬الزعيم‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬بآلاتٍ‭ ‬حادَّةٍ‭ ‬للإطاحة‭ ‬به‭ ‬ثم‭ ‬قام‭ ‬أحد‭ ‬الأشخاص‭ ‬بجلب‭ ‬‮«‬كاشيك‮»‬،‭ ‬وأطاح‭ ‬بالتمثال‭ ‬الضخم‭ ‬الشاهق‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬وسط‭ ‬أصوات‭ ‬الفرح،‭ ‬وصرخات‭ ‬الابتهاج،‭ ‬رأتْ‭ ‬من‭ ‬بعيد‭ ‬تمثال‭ ‬جمال‭ ‬عبد‭ ‬الناصر‭ ‬وهو‭ ‬يتهاوى‭ ‬ويسقط‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الشارع‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬عليه‭ ‬اسمه،‭ ‬وبعد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬وقوفه‭ ‬صامتًا‭ ‬شامخًا‭ ‬شاهدًا‭ ‬على‭ ‬تفاصيل‭ ‬المدينة،‭ ‬وأسرارها‭ ‬بصمتٍ،‭ ‬معلنًا‭ ‬بسقوطه‭ ‬بداية‭ ‬حقبة‭ ‬درامية‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬عمر‭ ‬المدينة‭ ‬والبلاد‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى