
استقبلها عاملُ الاستقبال في مكان عملها بوجهه العبوس الجامد، لا تدري لماذا بدأ لها مثل تمثال «أبو الهول»، فمنذ أنَّ عملتْ بالمؤسَّسة قبلَ عشرِ سنواتٍ، وهو في مكانه بالوجِهِ نفسِهِ والجمودِ، والصَّمتِ نفسهِ، حتى أنها لا تذكر أبدًا بأنها سمعتْ صوته.
تركتْ تمثالَ «أبو الهول» في الطابقِ السِّفليِّ منَ المؤسَّسة وارتقتْ إلى الدور الثاني حيث مكتبها رفقة زميلات العمل، كانت الأجواءُ داخل وخارج المؤسَّسة مشحونةً بالتوتر، فخبر انهيار نظام حسني مبارك هو الحديث الذي تتهامس به كل زميلات العمل، وثمة همسٌ خافتٌ بينهنَّ بأن هناكَ مجموعة من الشباب بالمدينة يخططون للخروج فى مظاهراتٍ عارمة خلال اليومين القادمين.
جوُّ العملِ مشحونٌ بالترقب، والخوف، والهمس مع مراقبة المكان خوفًا من العسس، وحاملي الأخبار.
في اليوم الثاني؛ وبينما كانت حافلة العمل تنهب الأرض للوصول إلى مبنى المؤسسة وسط صمتٍ مريبٍ في الطرقات وحركة سيارات خفيفة جدًّا، الناس قرَّروا عدمَ الخروجِ من منازلهم لإدراكهم بأن ثمة شيئًا ما سيحدث في اليوم الموعود.
عند الساعة العاشرة علا صوت الضوضاء في الشارع، ووصلت إلى مسامعها أصوات هتافات الشباب العالية، لم تصدِّق أذنيها وهي تسمع هتاف )الشعب يريد إسقاط النظام(.
ارتجف جسدها من شجاعة العبارات التى اخترقت وزعزعت أربعين عامًا من عمر الخوف والصمت وهب الذعر في أروقة المؤسسة، وجاء أحد أفراد الإدارة ليخبرهم بأن المؤسسة ستقفل أبوابها وعلى الموظفين والموظفات الخروج والعودة لبيوتهم.
في طريق عودتها رأت جموع الشباب وهم يهتفون بصوتٍ عالٍ، وسيارات الأمن تملأ الشوارع، وكادت إحدى سيارات الشرطة أن تصطدم بحافلة العمل لولا حنكة السائق، الشوارع خالية إلا من جموع الشباب الذين خرجوا زرافاتٍ هاتفين بالعبارات المزلزلة.
حين وصلت للبيت، فتحت شاشة التلفزيون لمتابعة آخر التطورات؛ كانت الأمور تحتدم وتزداد شراسةً، والرصاص أصبح يصطاد الشبابَ كالعصافير، كان منظر الشباب وهم يتساقطون أمام الكتيبة كعصافير لا حول لهم ولا قوة، يزيد من لهيب الغضب في قلوب الناس.
سقطت الكتيبة الأمنية التي كانت تحصد برصاصها الشباب المتظاهرين السلميِّين، وفر من مطار بنغازي ابن حاكم البلاد، وقام الشباب بفعل الغضب بحرق مقرَّات اللجان الثورية ومقرَّات الشرطة، وأصبحت بنغازي خارج سلطة حاكم البلاد.
خرجت الجموع متوجهةً نحو محكمة المدينة حيث نُصبت منصةٌ لتداول آخر الأخبار عنِ الثورة، خرجت هي أيضًا مع أخيها لمعاينة ما حدث للمدينة بعد الأيَّام الدامية التي اضطرت فيها العائلات للبقاء في البيوت، وتركت الأمور لأبنائها كي تشعل الثورة وتسيطر على المدينة، كانت الأفراح والأهازيج والضحكات، وحشود السيارات الممتلئة بالعائلات المبتهجة تملأ شوارع المدينة، كان الفرح فقط هو الذي سيطر على مشاعر الجموع دون إدراك لما قد يحدث في الأيَّام القادمة من ردة فعل عنيفة ومرعبة.
مرَّتْ بشارع جمال عبد الناصر فرأتْ جموعًا منَ الشبابِ تقوم بضرب تمثال الزعيم جمال عبد الناصر بآلاتٍ حادَّةٍ للإطاحة به ثم قام أحد الأشخاص بجلب «كاشيك»، وأطاح بالتمثال الضخم الشاهق على الأرض وسط أصوات الفرح، وصرخات الابتهاج، رأتْ من بعيد تمثال جمال عبد الناصر وهو يتهاوى ويسقط في وسط الشارع الذي أطلق عليه اسمه، وبعد عقود من وقوفه صامتًا شامخًا شاهدًا على تفاصيل المدينة، وأسرارها بصمتٍ، معلنًا بسقوطه بداية حقبة درامية أخرى من عمر المدينة والبلاد.