
لا أدري حقًّا كيف تنفصل الكتابة في موضوع ما عن وجدان الكاتب، ولذلك لطالما وجدت الموضوعية هي خط نهاية لسردية البشر اللانهائية في الأساس والمنفتحة على كل الاحتمالات .. أحاول في هذا المقال الكتابة عن أهمية السينما، ليس بموضوعية بقدر ما بكيف أجدها في الغالب بما أني عاشقة لها، ولأني حالمة بأن تكون جزءًا من مكونات مجتمعي الليبي، وصناعة يشار إليها بالبنان، مع أننا تأخرنا لدرجة أننا اقتربنا من مرحلة تزعزع مكانة السينما عالميًّا، فهل سنصل في الوقت المناسب؟، أم أن القطار سيتجاوزنا إلى الأبد؟ أم لعله لم يعد من قطار في الأساس لنلحق به!
هنا محاولة للتمهيد وإضاءات وأسئلة قد لا تكون لها إجابة ما، بقدر ما ستكون بذرة لتفكّر مستقبلي… وفي محاولة منّا لتشكيل قاعدة نظرية فكرية للدخول في مجادلات نحو فلسفة السينما واجتماعيتها.
الشاشة الفضية، أو الفن السابع… ذلك الترفيه الذي تحول إلى أداة تأثّر وتأثير على المجتمع… تلك الملهمة للتغيير والفارضة للتنميط في آن، التي أثّرت على القيم والسلوكيات والتطلعات أيضًا.
يقول «موريس ميرلوبونتي»: )السينما أو الفيلم نوع من الإدراك المجسد. يجسد طريقتنا في رؤية العالم( 1945م.
في أحيان كثيرة، من تجربتي الذاتية في عالم السينما والمشاهدة، التي أعدها مصدري الأساس في الحديث، أجدني أغير فكرة ما أو أكتسب قناعة ما وأعزز أخرى، وأتصرف بعاطفة مفرطة في أحيان تقودني للشعور بالانفتاح الثقافي الإنساني على أنواع من الثقافات الأخرى، بل أكثر دقة من ذلك الانفتاح على مشاعر عميقه لبشر مختلفين لم نكن نعرف بوجودها. وقد تلامس عمقًا ما في داخلك أنت، بمشاهدة فيلم فقط، وخوض تجربة المشاهدة السينمائية التي كلما كانت عظيمة جعلتك جزءًا منها ومارست سلطتها الجمالية عليك.
يخبرنا «سلافوي جيجيك» في إحدى مقولاته: )إن السينما أكثر واقعية من الواقع نفسه، لأنها تظهر رغباتنا وخيالاتنا وهواجسنا(.
السينما… ذلك الفضاء العمومي
يعرف الفضاء العمومي بأنه: )مجال اجتماعي، يسمح للأفراد والمجموعات بالحوار وتبادل الآراء، والنقاش حول القضايا العامة بحرية وبتفكر، بعيدًا عن أي سلطات موجهة(.
والسينما بطريقة ما هي فضاء يُمكّن البشر -سواء صناع السينما )بدرجة أقل من الحرية لاعتبارات الصناعة نفسها( أو متلقي العرض، بواسطة دور العرض أو المنتديات السينمائية أو حتى جلسة في فضاء عمومي آخر كـ)المقاهي(- من النقاش حول فيلم معين أو قضية أثيرت في هذا الفيلم أو ذاك، تخص الشأن العام، والنتائج تتفاوت، فقد يتحول هذا النقاش الحر إلى قضية رأي عام، أو حتى إلى تداولات نقاشية تؤدي إلى طرح إشكاليات لم تكن مطروحة من قبل، أو تسلط الضوء على مشكلة أو ظاهرة، حتى إنه في بعض الأحيان -حدث هذا في العقد الأخير- قد تُختلق مشكلة لم تكن موجودة في الأساس، وتُرسّخ بتداولها في جلسات الحوار المجتمعية لتركيز السينما عليها..
وعليه فدور العرض التي هي مكان للالتقاء الجماعي أو منتديات السينما (نادي سينما تاناروت في بنغازي على سبيل المثال) أو تجمعات الأصدقاء المهتمين بالحديث عن الأفلام، هي فضاءات تسمح بتبادل الانطباعات والأفكار والنقاشات حول قضايا أساسية كالعدالة والحرية والسلطة، والوضع الاجتماعي، والعنف ضد المرأة، والتمييز العنصري والطبقي، حتى مصداقية السرديات التاريخية.
وبناءً عليه، ألا تكون السينما بهذا المفهوم جزءًا من تشكيل الوعي الجمعي للمجتمعات؟ مع طرح السؤال المهم دائمًا: إلى أي مدى تؤثر هذه النقاشات إذا كان مجتمع ما ضعيفًا ثقافيًّا ولا يمتلك قدرات تحليلية نقدية ولا خبرات فكرية جماعية، أي لعلنا نقول إن جودة مفردات رواد الفضاء العام تظهر في مخرجاته التي ستتراوح بين الحديث العابر غير المؤثر إلى نوع من أنواع السلطة الضاغطة.
ويعرف «هابرماس» الفضاء العمومي بكونه حلقة الوصل بين السلطة والمجتمع المدني، تتأثر قوتها بمدى وعي أفرادها بقضاياهم العامة، وقد تشكل السينما هذا الوعي… نعم هي حلقة متصلة من التأثير والتأثر.
)إذا استُخدمت السينما ضد الغفلة الجماهيرية فإنها قادرة على تحويل المتلقي من سلبي إلى ناقد( ثيودور أدورنو.
لا سينما جيدة دون وعي جيد، والوعي الجيد يُنتج سينما جيدة.
)لا ننسى هنا وجود رأي يعاكس هذا، وهو أن السينما تحديدًا من أسباب الوعي الزائف، وأنها تبعد الإنسان عن واقعه وتفصله عنه، وقد قالت بذلك مدرسة فرانكفورت. وسيكون هذا موضوع مقال لاحق في هذه السلسة(.
السينما قوة ناعمة
)الفيلم أداة سياسية( هذا واضح جدًّا، ويصبح ذلك جليًّا كلما مرّ الوقت عن حدث تاريخي معين. كيف كانت تستخدم السينما كخطاب سلطوي لتعزيز فكرة دولة ما أو مجتمع ما، سواء اتجاه العالم الخارجي في أوقات الحروب أو نحو شعب في أوقات الأزمات الداخلية… إنّ نشر الأفكار والسيطرة على الجماهير هي المهمة السهلة لدى السينما، ولأنها وسيلة إعلام سمعية بصرية فهي إحدى أهم وسائل الإعلام الجماهيري، ومن ثم فهي من أدوات القوة الناعمة.
يجدر بنا أن نذكر تعريف القوة الناعمة: “هي القدرة على التأثير في سلوك الآخرين دون استخدام القوة أو الإكراه، بل بالقدرة على الإقناع”.
أوليست السينما تفعل ذلك؟ بل وفعلته من قبل )صورة الجندي الأمريكي البطل، والمسلم الإرهابي، والسينما الروسية والثورة البلشفية، والدعاية الألمانية للرايخ الثالث، والتهديد النازي من الجهة المقابلة، والمحرقة اليهودية، ونضال الشعوب المحتلة، والنيوليبرالية، وصولًا إلى الصوابية السياسية(.
ومن جهة أخرى، قد يكون إدراك أهمية هذه القوة الناعمة هو سبب الخوف منها، وفرض القيود الرقابية المشدّدة عليها ولجم حرياتها، أي إنها قد تكون وسيلة في يد سلطة دكتاتورية فاشية قامعة ظالمة، وقد تكون أداة في يد دول تريد الحفاظ على هويتها وإرثها الثقافي وحضارتها، بل ووجودها من ناحية أخرى.
(وهنا يظهر تساؤل آخر حول الفن الملتزم والجدال حول الفن من أجل الفن).
السينما والتأثير
المجتمعي التربوي
أعرف أن كل المفاهيم قد تبدو متقاربة وتصبّ في منبع واحد، وهذا المقصود تحديدًا، تبيان أهمية نبع السينما الذي يتفرع إلى جداول وروافد في كل مناحي هذه الحياة على هذه الكرة الأرضية، ومن هنا جاء سحرها الفذّ. في كتاب علم اجتماع السينما وجماهيرها، يحاول إيمانويل إيتيس إظهار الجانب الاجتماعي والتربوي للسينما، وأن نشاط الذهاب إلى السينما في بعض البلدان هو النشاط الاجتماعي الأبرز والأكثر شيوعًا، إضافة إلى المشاهدات الجمعية أو العائلية على المنصات أو قنوات التلفزيون لأفلام سينمائية مختلفة.
وتحدّث أيضًا عمّا يعرف بـ)اجتماعية المشاهدة(، وهو أن الطفل يبدأ في تعلم كيفية الجلوس للمشاهدة وترويض الجسد على مدة العرض واحتواء ردود الأفعال المختلفة التي تكون مفرطة في الانفعال في بعض الأحيان، “والنظر إلى الشاشة والشاشة فقط”.
إن الذهاب إلى السينما يعني الدخول في تجربة المشاهدة معًا… وما المجتمع إلا هذا )المعًا(. قرار المشاركة في المشاهدة وسماع وجهات النظر المختلفة عن صناعة الفيلم أو قضية الفيلم… ومن هنا تبدأ قدرة السينما الرائعة في جعل الفرد منفتحًا على الآخر، وتقوده للتعاطف بطريقة أو بأخرى. التعاطف الذي بُنيت عليه المجتمعات، وهو بدوره سيخلق مجتمعًا صحيًّا.
وكما تفعل السياسة في فرض أيديولوجيا ما… يستطيع صناع السينما تعزيز قيم اجتماعية ما وطرح سلوكيات مقيتة على نحو أكثر مقتًا؛ لمحاولة تخفيفها أو التخلص منها، والسعي لغرس قيم نبيلة أخرى )مع ما أراه في هذا الجانب من مثالية، وأرى أن المثالية المفرطة هي التي أظهرت لنا كليشيهات الخير المطلق والشر المطلق المباشرة الفجة في النصح والوعظ في بعض الأفلام، التي صارت منفرة جدًّا عند مشاهدي هذا العصر(.
هل من جدوى اليوم؟
أحاول أن أختم بطرح همومِ مُحِبَّةٍ للسينما تعيش في بلد انعدمت فيه صناعة السينما، فمحاولاته الجميلة تساوي العدم إلى الآن. أعرف أن هذه الجملة قاسية لكن المقياس والمعيار هو النتاج العالمي، وبلغة الأرقام نحن لا نملك شيئًا… يبدأ تساؤلي فيما لو استشعر المجتمع والفرد وصاحب القرار ورجال الدولة والمفكرون وأصحاب النظريات أهمية السينما في تشكيل الوعي المجتمعي، وأهميتها في رتق النسيج الاجتماعي ومواجهة حروبنا الأهلية وجهًا لوجه، ومواطن ضعفنا الهويّاتي، وملاحقة جذورنا لتغذيتها… ألا تتحول السينما إلى فرض عين على مرحلة النهوض التي نحاولها منذ مدة. لنترك هذا الجانب وننظر إليها من جانب آخر.
كونها صناعة ترفيه صِرف… أليست مجالًا رحبًا للاقتصاد والتوظيف والسوق؟ أليست موازية للكثير من خطط التنمية؟
وإذا نظرنا إليها من جانب ثالث، ألا يحتاج هذا الليبي المطحون بواقعه إلى الفن والجمال ليعيد إلى نفسه جزءًا من توازنها لمواجهة قسوة حياته في ليبيا بصفة خاصة وحياته الإنسانية في هذا العالم القاسي بصفة عامة؟
السينما وسيلة للتعبير عن المشاعر والأفكار، ومن ثم هي ماكينة إبداع لا تنضب، وما نحاول هنا إلا تلمس طريق صحيح لبدايات تأخرت كثيرًا…بداية في وقت انتشار منصات المشاهدة المنزلية
عن صفحة مؤسسة ليبيا للافلام
ادراك أهمية هذه القوى الناعمة هو سبب الخوف منها