فنون

قطار السينما :لا سينما جيدة دون وعي جيد

ميسون صالح

لا‭ ‬أدري‭ ‬حقًّا‭ ‬كيف‭ ‬تنفصل‭ ‬الكتابة‭ ‬في‭ ‬موضوع‭ ‬ما‭ ‬عن‭ ‬وجدان‭ ‬الكاتب،‭ ‬ولذلك‭ ‬لطالما‭ ‬وجدت‭ ‬الموضوعية‭ ‬هي‭ ‬خط‭ ‬نهاية‭ ‬لسردية‭ ‬البشر‭ ‬اللانهائية‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬والمنفتحة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الاحتمالات‭ .. ‬أحاول‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬المقال‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬أهمية‭ ‬السينما،‭ ‬ليس‭ ‬بموضوعية‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬بكيف‭ ‬أجدها‭ ‬في‭ ‬الغالب‭ ‬بما‭ ‬أني‭ ‬عاشقة‭ ‬لها،‭ ‬ولأني‭ ‬حالمة‭ ‬بأن‭ ‬تكون‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬مكونات‭ ‬مجتمعي‭ ‬الليبي،‭ ‬وصناعة‭ ‬يشار‭ ‬إليها‭ ‬بالبنان،‭ ‬مع‭ ‬أننا‭ ‬تأخرنا‭ ‬لدرجة‭ ‬أننا‭ ‬اقتربنا‭ ‬من‭ ‬مرحلة‭ ‬تزعزع‭ ‬مكانة‭ ‬السينما‭ ‬عالميًّا،‭ ‬فهل‭ ‬سنصل‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬المناسب؟،‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬القطار‭ ‬سيتجاوزنا‭ ‬إلى‭ ‬الأبد؟‭ ‬أم‭ ‬لعله‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬من‭ ‬قطار‭ ‬في‭ ‬الأساس‭ ‬لنلحق‭ ‬به‭!‬

هنا‭ ‬محاولة‭ ‬للتمهيد‭ ‬وإضاءات‭ ‬وأسئلة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تكون‭ ‬لها‭ ‬إجابة‭ ‬ما،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬ستكون‭ ‬بذرة‭ ‬لتفكّر‭ ‬مستقبلي‮…‬‭ ‬وفي‭ ‬محاولة‭ ‬منّا‭ ‬لتشكيل‭ ‬قاعدة‭ ‬نظرية‭ ‬فكرية‭ ‬للدخول‭ ‬في‭ ‬مجادلات‭ ‬نحو‭ ‬فلسفة‭ ‬السينما‭ ‬واجتماعيتها‭.‬

الشاشة‭ ‬الفضية،‭ ‬أو‭ ‬الفن‭ ‬السابع‮…‬‭ ‬ذلك‭ ‬الترفيه‭ ‬الذي‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬أداة‭ ‬تأثّر‭ ‬وتأثير‭ ‬على‭ ‬المجتمع‮…‬‭ ‬تلك‭ ‬الملهمة‭ ‬للتغيير‭ ‬والفارضة‭ ‬للتنميط‭ ‬في‭ ‬آن،‭ ‬التي‭ ‬أثّرت‭ ‬على‭ ‬القيم‭ ‬والسلوكيات‭ ‬والتطلعات‭ ‬أيضًا‭.‬

يقول‭ ‬‮«‬موريس‭ ‬ميرلوبونتي‮»‬‭:‬‭ )‬السينما‭ ‬أو‭ ‬الفيلم‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الإدراك‭ ‬المجسد‭. ‬يجسد‭ ‬طريقتنا‭ ‬في‭ ‬رؤية‭ ‬العالم‭( ‬1945م‭.‬

في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة،‭ ‬من‭ ‬تجربتي‭ ‬الذاتية‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬السينما‭ ‬والمشاهدة،‭ ‬التي‭ ‬أعدها‭ ‬مصدري‭ ‬الأساس‭ ‬في‭ ‬الحديث،‭ ‬أجدني‭ ‬أغير‭ ‬فكرة‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬أكتسب‭ ‬قناعة‭ ‬ما‭ ‬وأعزز‭ ‬أخرى،‭ ‬وأتصرف‭ ‬بعاطفة‭ ‬مفرطة‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬تقودني‭ ‬للشعور‭ ‬بالانفتاح‭ ‬الثقافي‭ ‬الإنساني‭ ‬على‭ ‬أنواع‭ ‬من‭ ‬الثقافات‭ ‬الأخرى،‭ ‬بل‭ ‬أكثر‭ ‬دقة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬الانفتاح‭ ‬على‭ ‬مشاعر‭ ‬عميقه‭ ‬لبشر‭ ‬مختلفين‭ ‬لم‭ ‬نكن‭ ‬نعرف‭ ‬بوجودها‭. ‬وقد‭ ‬تلامس‭ ‬عمقًا‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬داخلك‭ ‬أنت،‭ ‬بمشاهدة‭ ‬فيلم‭ ‬فقط،‭ ‬وخوض‭ ‬تجربة‭ ‬المشاهدة‭ ‬السينمائية‭ ‬التي‭ ‬كلما‭ ‬كانت‭ ‬عظيمة‭ ‬جعلتك‭ ‬جزءًا‭ ‬منها‭ ‬ومارست‭ ‬سلطتها‭ ‬الجمالية‭ ‬عليك‭.‬

يخبرنا‭ ‬‮«‬سلافوي‭ ‬جيجيك‮»‬‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مقولاته‭:‬‭ )‬إن‭ ‬السينما‭ ‬أكثر‭ ‬واقعية‭ ‬من‭ ‬الواقع‭ ‬نفسه،‭ ‬لأنها‭ ‬تظهر‭ ‬رغباتنا‭ ‬وخيالاتنا‭ ‬وهواجسنا‭(.‬

السينما‮…‬‭ ‬ذلك‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي

يعرف‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬بأنه‭: )‬مجال‭ ‬اجتماعي،‭ ‬يسمح‭ ‬للأفراد‭ ‬والمجموعات‭ ‬بالحوار‭ ‬وتبادل‭ ‬الآراء،‭ ‬والنقاش‭ ‬حول‭ ‬القضايا‭ ‬العامة‭ ‬بحرية‭ ‬وبتفكر،‭ ‬بعيدًا‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬سلطات‭ ‬موجهة‭(.‬

والسينما‭ ‬بطريقة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬فضاء‭ ‬يُمكّن‭ ‬البشر‭ -‬سواء‭ ‬صناع‭ ‬السينما‭ )‬بدرجة‭ ‬أقل‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬لاعتبارات‭ ‬الصناعة‭ ‬نفسها‭( ‬أو‭ ‬متلقي‭ ‬العرض،‭ ‬بواسطة‭ ‬دور‭ ‬العرض‭ ‬أو‭ ‬المنتديات‭ ‬السينمائية‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬جلسة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬عمومي‭ ‬آخر‭ ‬كـ‭)‬المقاهي‭(- ‬من‭ ‬النقاش‭ ‬حول‭ ‬فيلم‭ ‬معين‭ ‬أو‭ ‬قضية‭ ‬أثيرت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الفيلم‭ ‬أو‭ ‬ذاك،‭ ‬تخص‭ ‬الشأن‭ ‬العام،‭ ‬والنتائج‭ ‬تتفاوت،‭ ‬فقد‭ ‬يتحول‭ ‬هذا‭ ‬النقاش‭ ‬الحر‭ ‬إلى‭ ‬قضية‭ ‬رأي‭ ‬عام،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬تداولات‭ ‬نقاشية‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬طرح‭ ‬إشكاليات‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مطروحة‭ ‬من‭ ‬قبل،‭ ‬أو‭ ‬تسلط‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬مشكلة‭ ‬أو‭ ‬ظاهرة،‭ ‬حتى‭ ‬إنه‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان‭ -‬حدث‭ ‬هذا‭ ‬في‭ ‬العقد‭ ‬الأخير‭- ‬قد‭ ‬تُختلق‭ ‬مشكلة‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬موجودة‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬وتُرسّخ‭ ‬بتداولها‭ ‬في‭ ‬جلسات‭ ‬الحوار‭ ‬المجتمعية‭ ‬لتركيز‭ ‬السينما‭ ‬عليها‭..‬

وعليه‭ ‬فدور‭ ‬العرض‭ ‬التي‭ ‬هي‭ ‬مكان‭ ‬للالتقاء‭ ‬الجماعي‭ ‬أو‭ ‬منتديات‭ ‬السينما‭ (‬نادي‭ ‬سينما‭ ‬تاناروت‭ ‬في‭ ‬بنغازي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭) ‬أو‭ ‬تجمعات‭ ‬الأصدقاء‭ ‬المهتمين‭ ‬بالحديث‭ ‬عن‭ ‬الأفلام،‭ ‬هي‭ ‬فضاءات‭ ‬تسمح‭ ‬بتبادل‭ ‬الانطباعات‭ ‬والأفكار‭ ‬والنقاشات‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬أساسية‭ ‬كالعدالة‭ ‬والحرية‭ ‬والسلطة،‭ ‬والوضع‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬والعنف‭ ‬ضد‭ ‬المرأة،‭ ‬والتمييز‭ ‬العنصري‭ ‬والطبقي،‭ ‬حتى‭ ‬مصداقية‭ ‬السرديات‭ ‬التاريخية‭.‬

وبناءً‭ ‬عليه،‭ ‬ألا‭ ‬تكون‭ ‬السينما‭ ‬بهذا‭ ‬المفهوم‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬الجمعي‭ ‬للمجتمعات؟‭ ‬مع‭ ‬طرح‭ ‬السؤال‭ ‬المهم‭ ‬دائمًا‭: ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬مدى‭ ‬تؤثر‭ ‬هذه‭ ‬النقاشات‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬مجتمع‭ ‬ما‭ ‬ضعيفًا‭ ‬ثقافيًّا‭ ‬ولا‭ ‬يمتلك‭ ‬قدرات‭ ‬تحليلية‭ ‬نقدية‭ ‬ولا‭ ‬خبرات‭ ‬فكرية‭ ‬جماعية،‭ ‬أي‭ ‬لعلنا‭ ‬نقول‭ ‬إن‭ ‬جودة‭ ‬مفردات‭ ‬رواد‭ ‬الفضاء‭ ‬العام‭ ‬تظهر‭ ‬في‭ ‬مخرجاته‭ ‬التي‭ ‬ستتراوح‭ ‬بين‭ ‬الحديث‭ ‬العابر‭ ‬غير‭ ‬المؤثر‭ ‬إلى‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬السلطة‭ ‬الضاغطة‭.‬

ويعرف‭ ‬‮«‬هابرماس‮»‬‭ ‬الفضاء‭ ‬العمومي‭ ‬بكونه‭ ‬حلقة‭ ‬الوصل‭ ‬بين‭ ‬السلطة‭ ‬والمجتمع‭ ‬المدني،‭ ‬تتأثر‭ ‬قوتها‭ ‬بمدى‭ ‬وعي‭ ‬أفرادها‭ ‬بقضاياهم‭ ‬العامة،‭ ‬وقد‭ ‬تشكل‭ ‬السينما‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‮…‬‭ ‬نعم‭ ‬هي‭ ‬حلقة‭ ‬متصلة‭ ‬من‭ ‬التأثير‭ ‬والتأثر‭.‬

‭)‬إذا‭ ‬استُخدمت‭ ‬السينما‭ ‬ضد‭ ‬الغفلة‭ ‬الجماهيرية‭ ‬فإنها‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬المتلقي‭ ‬من‭ ‬سلبي‭ ‬إلى‭ ‬ناقد‭( ‬ثيودور‭ ‬أدورنو‭.‬

لا‭ ‬سينما‭ ‬جيدة‭ ‬دون‭ ‬وعي‭ ‬جيد،‭ ‬والوعي‭ ‬الجيد‭ ‬يُنتج‭ ‬سينما‭ ‬جيدة‭.‬

‭)‬لا‭ ‬ننسى‭ ‬هنا‭ ‬وجود‭ ‬رأي‭ ‬يعاكس‭ ‬هذا،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬السينما‭ ‬تحديدًا‭ ‬من‭ ‬أسباب‭ ‬الوعي‭ ‬الزائف،‭ ‬وأنها‭ ‬تبعد‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬واقعه‭ ‬وتفصله‭ ‬عنه،‭ ‬وقد‭ ‬قالت‭ ‬بذلك‭ ‬مدرسة‭ ‬فرانكفورت‭. ‬وسيكون‭ ‬هذا‭ ‬موضوع‭ ‬مقال‭ ‬لاحق‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬السلسة‭(.‬

السينما‭ ‬قوة‭ ‬ناعمة

‭)‬الفيلم‭ ‬أداة‭ ‬سياسية‭( ‬هذا‭ ‬واضح‭ ‬جدًّا،‭ ‬ويصبح‭ ‬ذلك‭ ‬جليًّا‭ ‬كلما‭ ‬مرّ‭ ‬الوقت‭ ‬عن‭ ‬حدث‭ ‬تاريخي‭ ‬معين‭. ‬كيف‭ ‬كانت‭ ‬تستخدم‭ ‬السينما‭ ‬كخطاب‭ ‬سلطوي‭ ‬لتعزيز‭ ‬فكرة‭ ‬دولة‭ ‬ما‭ ‬أو‭ ‬مجتمع‭ ‬ما،‭ ‬سواء‭ ‬اتجاه‭ ‬العالم‭ ‬الخارجي‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الحروب‭ ‬أو‭ ‬نحو‭ ‬شعب‭ ‬في‭ ‬أوقات‭ ‬الأزمات‭ ‬الداخلية‮…‬‭ ‬إنّ‭ ‬نشر‭ ‬الأفكار‭ ‬والسيطرة‭ ‬على‭ ‬الجماهير‭ ‬هي‭ ‬المهمة‭ ‬السهلة‭ ‬لدى‭ ‬السينما،‭ ‬ولأنها‭ ‬وسيلة‭ ‬إعلام‭ ‬سمعية‭ ‬بصرية‭ ‬فهي‭ ‬إحدى‭ ‬أهم‭ ‬وسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الجماهيري،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فهي‭ ‬من‭ ‬أدوات‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭.‬

يجدر‭ ‬بنا‭ ‬أن‭ ‬نذكر‭ ‬تعريف‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭: ‬“هي‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬التأثير‭ ‬في‭ ‬سلوك‭ ‬الآخرين‭ ‬دون‭ ‬استخدام‭ ‬القوة‭ ‬أو‭ ‬الإكراه،‭ ‬بل‭ ‬بالقدرة‭ ‬على‭ ‬الإقناع”‭.‬

أوليست‭ ‬السينما‭ ‬تفعل‭ ‬ذلك؟‭ ‬بل‭ ‬وفعلته‭ ‬من‭ ‬قبل‭ )‬صورة‭ ‬الجندي‭ ‬الأمريكي‭ ‬البطل،‭ ‬والمسلم‭ ‬الإرهابي،‭ ‬والسينما‭ ‬الروسية‭ ‬والثورة‭ ‬البلشفية،‭ ‬والدعاية‭ ‬الألمانية‭ ‬للرايخ‭ ‬الثالث،‭ ‬والتهديد‭ ‬النازي‭ ‬من‭ ‬الجهة‭ ‬المقابلة،‭ ‬والمحرقة‭ ‬اليهودية،‭ ‬ونضال‭ ‬الشعوب‭ ‬المحتلة،‭ ‬والنيوليبرالية،‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الصوابية‭ ‬السياسية‭(.‬

ومن‭ ‬جهة‭ ‬أخرى،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬إدراك‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬القوة‭ ‬الناعمة‭ ‬هو‭ ‬سبب‭ ‬الخوف‭ ‬منها،‭ ‬وفرض‭ ‬القيود‭ ‬الرقابية‭ ‬المشدّدة‭ ‬عليها‭ ‬ولجم‭ ‬حرياتها،‭ ‬أي‭ ‬إنها‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬وسيلة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬سلطة‭ ‬دكتاتورية‭ ‬فاشية‭ ‬قامعة‭ ‬ظالمة،‭ ‬وقد‭ ‬تكون‭ ‬أداة‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬دول‭ ‬تريد‭ ‬الحفاظ‭ ‬على‭ ‬هويتها‭ ‬وإرثها‭ ‬الثقافي‭ ‬وحضارتها،‭ ‬بل‭ ‬ووجودها‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭.‬

‭(‬وهنا‭ ‬يظهر‭ ‬تساؤل‭ ‬آخر‭ ‬حول‭ ‬الفن‭ ‬الملتزم‭ ‬والجدال‭ ‬حول‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الفن‭).‬

السينما‭ ‬والتأثير

‭ ‬المجتمعي‭ ‬التربوي

أعرف‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬المفاهيم‭ ‬قد‭ ‬تبدو‭ ‬متقاربة‭ ‬وتصبّ‭ ‬في‭ ‬منبع‭ ‬واحد،‭ ‬وهذا‭ ‬المقصود‭ ‬تحديدًا،‭ ‬تبيان‭ ‬أهمية‭ ‬نبع‭ ‬السينما‭ ‬الذي‭ ‬يتفرع‭ ‬إلى‭ ‬جداول‭ ‬وروافد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مناحي‭ ‬هذه‭ ‬الحياة‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الكرة‭ ‬الأرضية،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬جاء‭ ‬سحرها‭ ‬الفذّ‭. ‬في‭ ‬كتاب‭ ‬علم‭ ‬اجتماع‭ ‬السينما‭ ‬وجماهيرها،‭ ‬يحاول‭ ‬إيمانويل‭ ‬إيتيس‭ ‬إظهار‭ ‬الجانب‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والتربوي‭ ‬للسينما،‭ ‬وأن‭ ‬نشاط‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬البلدان‭ ‬هو‭ ‬النشاط‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الأبرز‭ ‬والأكثر‭ ‬شيوعًا،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬المشاهدات‭ ‬الجمعية‭ ‬أو‭ ‬العائلية‭ ‬على‭ ‬المنصات‭ ‬أو‭ ‬قنوات‭ ‬التلفزيون‭ ‬لأفلام‭ ‬سينمائية‭ ‬مختلفة‭.‬

وتحدّث‭ ‬أيضًا‭ ‬عمّا‭ ‬يعرف‭ ‬بـ‭)‬اجتماعية‭ ‬المشاهدة‭(‬،‭ ‬وهو‭ ‬أن‭ ‬الطفل‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬تعلم‭ ‬كيفية‭ ‬الجلوس‭ ‬للمشاهدة‭ ‬وترويض‭ ‬الجسد‭ ‬على‭ ‬مدة‭ ‬العرض‭ ‬واحتواء‭ ‬ردود‭ ‬الأفعال‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬تكون‭ ‬مفرطة‭ ‬في‭ ‬الانفعال‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأحيان،‭ ‬“والنظر‭ ‬إلى‭ ‬الشاشة‭ ‬والشاشة‭ ‬فقط”‭.‬

إن‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬السينما‭ ‬يعني‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬تجربة‭ ‬المشاهدة‭ ‬معًا‮…‬‭ ‬وما‭ ‬المجتمع‭ ‬إلا‭ ‬هذا‭ )‬المعًا‭(. ‬قرار‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬المشاهدة‭ ‬وسماع‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬المختلفة‭ ‬عن‭ ‬صناعة‭ ‬الفيلم‭ ‬أو‭ ‬قضية‭ ‬الفيلم‮…‬‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬تبدأ‭ ‬قدرة‭ ‬السينما‭ ‬الرائعة‭ ‬في‭ ‬جعل‭ ‬الفرد‭ ‬منفتحًا‭ ‬على‭ ‬الآخر،‭ ‬وتقوده‭ ‬للتعاطف‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭. ‬التعاطف‭ ‬الذي‭ ‬بُنيت‭ ‬عليه‭ ‬المجتمعات،‭ ‬وهو‭ ‬بدوره‭ ‬سيخلق‭ ‬مجتمعًا‭ ‬صحيًّا‭.‬

وكما‭ ‬تفعل‭ ‬السياسة‭ ‬في‭ ‬فرض‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬ما‮…‬‭ ‬يستطيع‭ ‬صناع‭ ‬السينما‭ ‬تعزيز‭ ‬قيم‭ ‬اجتماعية‭ ‬ما‭ ‬وطرح‭ ‬سلوكيات‭ ‬مقيتة‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أكثر‭ ‬مقتًا؛‭ ‬لمحاولة‭ ‬تخفيفها‭ ‬أو‭ ‬التخلص‭ ‬منها،‭ ‬والسعي‭ ‬لغرس‭ ‬قيم‭ ‬نبيلة‭ ‬أخرى‭ )‬مع‭ ‬ما‭ ‬أراه‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬من‭ ‬مثالية،‭ ‬وأرى‭ ‬أن‭ ‬المثالية‭ ‬المفرطة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬أظهرت‭ ‬لنا‭ ‬كليشيهات‭ ‬الخير‭ ‬المطلق‭ ‬والشر‭ ‬المطلق‭ ‬المباشرة‭ ‬الفجة‭ ‬في‭ ‬النصح‭ ‬والوعظ‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬الأفلام،‭ ‬التي‭ ‬صارت‭ ‬منفرة‭ ‬جدًّا‭ ‬عند‭ ‬مشاهدي‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭(.‬

هل‭ ‬من‭ ‬جدوى‭ ‬اليوم؟

أحاول‭ ‬أن‭ ‬أختم‭ ‬بطرح‭ ‬همومِ‭ ‬مُحِبَّةٍ‭ ‬للسينما‭ ‬تعيش‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬انعدمت‭ ‬فيه‭ ‬صناعة‭ ‬السينما،‭ ‬فمحاولاته‭ ‬الجميلة‭ ‬تساوي‭ ‬العدم‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭. ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الجملة‭ ‬قاسية‭ ‬لكن‭ ‬المقياس‭ ‬والمعيار‭ ‬هو‭ ‬النتاج‭ ‬العالمي،‭ ‬وبلغة‭ ‬الأرقام‭ ‬نحن‭ ‬لا‭ ‬نملك‭ ‬شيئًا‮…‬‭ ‬يبدأ‭ ‬تساؤلي‭ ‬فيما‭ ‬لو‭ ‬استشعر‭ ‬المجتمع‭ ‬والفرد‭ ‬وصاحب‭ ‬القرار‭ ‬ورجال‭ ‬الدولة‭ ‬والمفكرون‭ ‬وأصحاب‭ ‬النظريات‭ ‬أهمية‭ ‬السينما‭ ‬في‭ ‬تشكيل‭ ‬الوعي‭ ‬المجتمعي،‭ ‬وأهميتها‭ ‬في‭ ‬رتق‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬ومواجهة‭ ‬حروبنا‭ ‬الأهلية‭ ‬وجهًا‭ ‬لوجه،‭ ‬ومواطن‭ ‬ضعفنا‭ ‬الهويّاتي،‭ ‬وملاحقة‭ ‬جذورنا‭ ‬لتغذيتها‮…‬‭ ‬ألا‭ ‬تتحول‭ ‬السينما‭ ‬إلى‭ ‬فرض‭ ‬عين‭ ‬على‭ ‬مرحلة‭ ‬النهوض‭ ‬التي‭ ‬نحاولها‭ ‬منذ‭ ‬مدة‭. ‬لنترك‭ ‬هذا‭ ‬الجانب‭ ‬وننظر‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬آخر‭.‬

كونها‭ ‬صناعة‭ ‬ترفيه‭ ‬صِرف‮…‬‭ ‬أليست‭ ‬مجالًا‭ ‬رحبًا‭ ‬للاقتصاد‭ ‬والتوظيف‭ ‬والسوق؟‭ ‬أليست‭ ‬موازية‭ ‬للكثير‭ ‬من‭ ‬خطط‭ ‬التنمية؟

وإذا‭ ‬نظرنا‭ ‬إليها‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬ثالث،‭ ‬ألا‭ ‬يحتاج‭ ‬هذا‭ ‬الليبي‭ ‬المطحون‭ ‬بواقعه‭ ‬إلى‭ ‬الفن‭ ‬والجمال‭ ‬ليعيد‭ ‬إلى‭ ‬نفسه‭ ‬جزءًا‭ ‬من‭ ‬توازنها‭ ‬لمواجهة‭ ‬قسوة‭ ‬حياته‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬وحياته‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العالم‭ ‬القاسي‭ ‬بصفة‭ ‬عامة؟

السينما‭ ‬وسيلة‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬المشاعر‭ ‬والأفكار،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬هي‭ ‬ماكينة‭ ‬إبداع‭ ‬لا‭ ‬تنضب،‭ ‬وما‭ ‬نحاول‭ ‬هنا‭ ‬إلا‭ ‬تلمس‭ ‬طريق‭ ‬صحيح‭ ‬لبدايات‭ ‬تأخرت‭ ‬كثيرًا‮…‬بداية‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬انتشار‭ ‬منصات‭ ‬المشاهدة‭ ‬المنزلية

عن‭ ‬صفحة‭  ‬مؤسسة‭ ‬ليبيا‭ ‬للافلام

ادراك‭ ‬أهمية‭ ‬هذه‭ ‬القوى‭ ‬الناعمة‭ ‬هو‭ ‬سبب‭ ‬الخوف‭ ‬منها

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى