قُوَّةُ الرَّدعِ وَبَسطُ الأَمنِ.. د. رضا محمد جبران
الأمنُ بنية إيقاعية عميقة، يسكن بها الوجدان، وتبنى عليها الأوطان، ويستقيم في وجودها الإنسان، هو منحة غالية بفقده تضييع الحقوق، ويشيع الخوف والهلع والفوضى، ولا يعرف المعتدى عليه ممن تعدى، وقد التمسنا هذه النعمة العظمى في رحاب بيتنا العامر بمنطقة «المجد»، واكتشفنا أسراره، في ظل رائد حكيم، متصالح مع نفسه قبل غيره، عشنا في كنفه، ووسعنا بمشمول حبه وحسن رعايته، كان أمينًا فيمن تعهدهم، ووفيًا صادقًا عادلاً وبالأخلاق قومهم وحكمهم، فـ((الحكمة ضالة المؤمن))، وقد تنعمنا بالأمن والأمان، والسعادة والمحبة والغفران، في ظل ذلك الأب الحاني محمد مسعود جبران رحمه اللَّه تعالى ومتعه بنعيم الجنان، فقد كان مدرسة تربوية نافعة، أضفى عليها منهجه في العلم والأخلاق، حيث غمرنا بكل عطف، وحب، ويسر أسباب السعادة، وساس رعيته بنظام أحكمت شرائعه، فالكبير يحترم الصغير، والصغير يوقر الكبير، ولكل مقصر عقاب، ولكل ملتزم مثاب، وهذه الدنيا هي دار ابتلاء، والكمال لا يكون إلا لله، والغفلة ديدننا، وغاية كل مفتتن بزخارف هذه الدنيا، والنفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي، لا يسلم من حبائلها إلا من اهتدى قلبه، وسلك في مدارج السالكين، وتنور قلبه برعاية المهتدين، وقد أسبغ الله علينا هذا الفضل، وآمننا من خوف، في توجيه وردع ذلك الرجل الكريم المسالم رحمه الله، الذي اتخذ منهجًا قويمًا في تربيتنا، وتنظيم أسرته الكبيرة التي قد يعجز كثيرٌ من الآباء عن تسييرها، تربية وتعليمًا، وكان ذلك المنهج هو مخاطبة روحية، يبسط بها الأمن، ويوقظ بها غفلة من تعدى، أو تمادى، في غير وجه حق، نعم قد حقق سيطرته بقوة ردعه التي كان يجمعنا عليها ولا يفلت منها أحدٌ، فهي نظام أسس به أسرة متماسكة، بل وطنا يعيش الجميع في ظله، حيث كان يجمعنا ويقول لكل واحد منا ملف خاص به، ونحن في تلك السن المبكرة لم نكن ندرك حجم خطورة ذلك الملف الذي خصصه إلا بعد وقوع أحدنا في خطأ فيعاقبه عليه، هنا تأتي صيغة قوله رحمه الله تعالى: ((ملفك تعبأ))، أقوى العبارات التي تظهر قوة الردع، وتشيع الأمن، وتحقق العدالة، والعبرة دائمًا بمن أصبح كبش الفداء، وبمن تحل به العقوبة، وتتجلى حينها عبارة توجيهية لبقية الحضور قوله : ((ملفك قريب يتعبأ)) التي تنقطع معها أنفاسنا، ويسافر خيالنا، لنقول كم بقي لنا في ملفنا الذي خصصه لنا، ونحاول أن نلتزم ونراقب أنفسنا، فالعقوبة ليست عنا ببعيد، وحقيقة الأمر أن هذه الملفات لم يكن لها وجود، بل هي من ابتكاره رحمه الله تعالى، حاول أن يخلق حياة آمنة مطمئنة، هادئة، مع عقول لعلها تسابق الزمن، فخياله الواسع، وسع مجال تفكيرنا في تقدير الخطأ والصواب، فأصبحنا كما قال الشاعر:
يُمَثِّلُ ذُو الْعَقْلِ فِي نَفْسِهِ .. مُصِيبَتَهُ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَا
فَإِنْ نَزَلَتْ بَغْتَةً لَمْ تَرُعْهُ .. لِمَا كَانَ فِي نَفْسِهِ مَثَّلَا
رَأَى الْهَمَّ يُفْضِي إِلَى آخِرٍ.. فَصَيَّرَ آخِرَهُ أَوَّلَا
وَذُو الْجَهْلِ يَأْمَنُ أَيَّامَهُ .. وَيَنْسَى مَصَارِعَ مَنْ قَدْ خَلَا
وَلَوْ قَدَّمَ الْحَزْمَ فِي أَمْرِهِ .. لَعَلَّمَهُ الصَّبْرُ حُسْنَ الْبَلَا
أو كما قال ابن الرومي:
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها**فمن علا زلقًا عن غرة زلجا
نعم هذه نعمة العقل، وجاء في المثل العربي: ((من أمن العقوبة أساء الأدب)) وحياتنا الصاخبة آنذاك مع ما يحلو فيها من ألوان اللعب، وما قد يجرك إلى الخطأ دون تعمد، أو بتعمد يحيلنا إلى تلك العقوبة التي كان قوامها الجلد بما يعرف عندنا ((بالطوبو)) الذي كان يعلقه رحمه الله في مدخل بيتنا لننظر إليه في رهبة، وكأنه يتمثل قول المصطفى عليه السلام في توجيه الزوجة: ((علق السوط وذكرها بالله))، وهذا شأننا معه، فهو رغم كثرة عفوه، وسماحته وحبه، كان يحاول أن يرشدنا إلى منهج الله في خلقه الذي تأسس على الترغيب والترهيب، فهو حكمة إلهية عظيمة أخرجت النَّاس من الظلمات إلى النَّور، فبالحكمة والردع تستقيم الأمور، ويعم الفرح والسرور، وتتجافى مضاجع المأجور، وبالأمن تتسامى بغية الظاميء والملهوف، وفي بسطه تعظم الهيبة، وتحل بالباغي الدوائر والخيبة، فنسأل الله أن يتغمد من رعانا وأحسن بالطيبات مأوانا، وأن يكتب السلامة والأمن والأمان لبلادنا من طوارق الليل والنهار، ومن جرائم العملاء والأشرار.