رأي

لتكريس التفاهة

معمر الزايدي

المتتبع‭ ‬لمجريات‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬الفرار‭ ‬من‭ ‬حالة‭ ‬الصدمة،‭ ‬والتعجب‭ ‬التي‭ ‬تكاد‭ ‬في‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الأحيان‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬الهستيريا‭ ‬والهلوسة‭ ‬ويبدو‭ ‬أننا‭ ‬فعلًا‭ ‬نتعامل‭ ‬مع‭ ‬حبوب‭ ‬الهلوسة‭ ‬بود‭ ‬مريب‭ .. ‬فبالبرغم‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬صراخنا‭ ‬يكاد‭ ‬يشق‭ ‬عنان‭ ‬السماء‭ ‬رفضًا‭ ‬لكل‭ ‬التلاعب‭ ‬السياسي‭ ‬والاقتصادي‭ ‬والاداري‭ ‬والذي‭ ‬شمل‭ ‬جميع‭ ‬هياكل‭ ‬الدولة‭ ‬وأدواتها‭ ‬حتى‭ ‬لكأنها‭ ‬تبدو‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬الشعب‭ ‬كالبهلوان‭ ‬الذي‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬الناس‭ ‬باضحاكهم‭ ‬وامتصاص‭ ‬جهودهم‭ ‬في‭ ‬تسويق‭ ‬لا‭ ‬ينتمي‭ ‬إلا‭ ‬للتفاهة‭ ‬والهزل‭ ‬السمج‭ ‬تمامًا‭ ‬كما‭ ‬وصفته‭ ‬الذاكرة‭ ‬الشعبية‭ ‬بالخانب‭ ‬الضحاك‭ ‬الذي‭ ‬يسرقك‭ ‬زي‭ ‬ما‭ ‬نقولوا‭ ‬بضحكة‭ ‬ولعبة‭ .‬

بالرغم‭ ‬من‭ ‬وعينا‭ ‬لمرارة‭ ‬ما‭ ‬نعيشه‭ ‬وسطوة‭ ‬اللامبالاة‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬الحكام‭ ‬الجدَّد‭ ‬فإننا‭ ‬نرى‭ ‬تزايدًا‭ ‬خطيرًا‭ ‬في‭ ‬معدل‭ ‬تنامي‭ ‬التفاهة‭ ‬التي‭ ‬صار‭ ‬كالطفيل‭ ‬وحيد‭ ‬الخلية‭ ‬البروتوزوا‭ ‬الذي‭ ‬يتكاثر‭ ‬بالانقسام‭ ‬الذاتي‭ ‬ويتوالد‭ ‬حتى‭ ‬يغزو‭ ‬الجسد‭ ‬ويقهره‭ ‬بالمرض‭ ‬وصولًا‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ .‬

هذه‭ ‬الحالة‭ ‬سياسية‭ ‬وتدار‭ ‬بتؤدة‭ ‬وبشكل‭ ‬في‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الخبث‭ ‬لتدير‭ ‬بلد‭ ‬بأسره‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬أسلوب‭ ‬المهرج‭ ‬والبهلوان‭ .‬

وأقول‭ ‬أنها‭ ‬حالة‭ ‬سياسية‭ ‬بإمتياز‭ ‬ليس‭ ‬بسبب‭ ‬تفكير‭ ‬ارتيابي‭ ‬ولا‭ ‬بتأثير‭ ‬نظرية‭ ‬المؤامرة‭ ‬ولكن‭ ‬بسبب‭ ‬أنها‭ ‬واقع‭ ‬نعيشه‭ ‬ويشمل‭ ‬كل‭ ‬أركان‭ ‬الدولة‭ ‬ومحتوياتها‭ ‬أيضًا‭ ‬ومشتملاتها‭ .‬

فالتفاهم‭ ‬موجهة‭ ‬بشكل‭ ‬احترافي‭ ‬لصرف‭ ‬الانتباه‭ ‬عن‭ ‬الأزمات‭ ‬الخانقة‭ ‬التي‭ ‬يعاني‭ ‬منها‭ ‬الشعب‭ ‬الليبي‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬مايتعلق‭ ‬به‭ ‬من‭ ‬جوانب‭ ‬الوجود‭ ‬والحياة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬ينكرها‭ ‬إلا‭ ‬موظف‭ ‬في‭ ‬شركة‭ ‬البهلوان،‭ ‬أو‭ ‬مجنون‭ ‬لا‭ ‬يميز‭ ‬بين‭ ‬الخبيث‭ ‬والطيب‭ .‬

ولنأخذ‭ ‬مثلاً‭ ‬رالي‭ (‬تي‭ ‬تي‭) ‬الذي‭ ‬من‭ ‬اسمه‭ ‬يبدو‭ ‬تافهًا‭ ‬ومكرسًا‭ ‬لأمور‭ ‬دبرت‭ ‬بليل‭ .. ‬فلفظ‭ ‬‮«‬تي‭ ‬تي‮»‬‭ ‬هو‭ ‬نداءٌ‭ ‬يستخدم‭ ‬شعبيًا‭ ‬لمناداة‭ (‬الدجاج‭) ‬من‭ ‬أجل‭ ‬اطعامه،‭ ‬أو‭ ‬إمساكه‭ ‬لتقديمه‭ ‬للطنجرة‭ !‬

الحدث‭ ‬موجه‭ ‬لشريحة‭ ‬مترفة‭ ‬من‭ ‬حديثي‭ ‬الثراء،‭ ‬أو‭ ‬لصوص‭ ‬المال‭ ‬العام،‭ ‬أو‭ ‬أبناء‭ ‬المسؤولين‭ ‬الذي‭ ‬تلطخت‭ ‬أيديهم‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬مناف‭ ‬للأخلاق‭ ‬والقيم‭ ‬والذي‭ ‬يتجمعون‭ ‬تحت‭ ‬ذريعة‭ ‬الرالي‭ ‬ليعيشوا‭ ‬الوهم‭ ‬الذي‭ ‬يغذيهم،‭ ‬ويعوضوا‭ ‬النقص‭ ‬الذي‭ ‬يخنقهم‭ ‬بإصدار‭ ‬أجواء‭ ‬فوقية‭ ‬يفرزونها‭ ‬على‭ ‬جموع‭ ‬الشعب‭ ‬الذي‭ ‬يشكل‭ ‬غالبية‭ ‬الحضور‭ ‬دونما‭ ‬قدرة‭ ‬على‭ ‬المشاركة‭ .. ‬فالظروف‭ ‬العامة‭ ‬للشعب‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬سوى‭ ‬بالتفرج‭ ‬على‭ ‬مسىحيات‭ ‬متصدري‭ ‬المشاهد‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والعسكرية‭ ‬وأصحاب‭ ‬النفوذ‭ ‬الطبالة‭ ‬واللحاسة‭ ‬بمعنى‭ ‬أوضح‭ ‬السؤال‭ ‬الذي‭ ‬يشغلني‭ ‬ليس‭ ‬‮«‬تي‭ ‬تي‮»‬‭ ‬ولا‭ ‬غيره‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬تجليات‭ ‬التفاهة‭ ‬وتسويقها‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬ادارك‭ ‬الشعب‭ ‬لما‭ ‬يجري‭ ‬حولة‭ ‬وما‭ ‬يراد‭ ‬به‭ ‬وله‭ ‬وهل‭ ‬نعي‭ ‬حقًا‭ ‬حجم‭ ‬الاستخفاف‭ ‬بنا‭ ‬كشعب‭ ‬يتطلع‭ ‬لحياة‭ ‬حقيقية‭ ‬خارج‭ ‬أوهام‭ ‬تسوقها‭ ‬لها‭ ‬الحكومات‭ .‬

هل‭ ‬نعي‭ ‬فعلا‭ ‬كليبيين‭ ‬معنى‭ ‬الوطن‭ ‬والبلد‭ ‬والفرق‭ ‬بين‭ ‬الحقيقة‭ ‬والوهم‭ .. ‬أم‭ ‬أننا‭ ‬قد‭ ‬غرقنا‭ ‬واستغرقنا‭ ‬في‭ ‬التفاهة‭ ‬والفساد‭ .‬

تحضرني‭ ‬قصة‭ ‬لمجنون‭ ‬ذهب‭ ‬لسوق‭ ‬الحوت‭ ‬ليشتري‭ ‬سمكًا،‭ ‬وحين‭ ‬أمسك‭ ‬بالسمكة‭ ‬أخذ‭ ‬يشمها‭ ‬من‭ ‬ذيلها،‭ ‬ويفحص‭ ‬الذيل‭ ‬وحين‭ ‬سُئل‭ ‬عن‭ ‬ماذا‭ ‬يفعل؛‭ ‬أخبرهم‭ ‬بأنه‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كانت‭ ‬فاسدة،‭ ‬أو‭ ‬صالحة‭ ‬للأكل‭ . ‬فضحك‭ ‬الحاضرون‭ ‬وأخبروه‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الفحص‭ ‬في‭ ‬رأس‭ ‬السمكة‭ ‬وليس‭ ‬من‭ ‬ذيلها‭ .. ‬فأجابهم‭ ‬أعرف‭ ‬ذلك‭ ‬وأعرف‭ ‬أيضًا‭ ‬أن‭ ‬رأس‭ ‬السمكة‭ ‬فاسدٌ،‭ ‬وغير‭ ‬صالح‭ ‬إنما‭ ‬أردتُ‭ ‬معرفة‭ ‬ما‭ ‬إذا‭ ‬كان‭ ‬الفساد‭ ‬قد‭ ‬وصل‭ ‬الذيل‭ ‬أم‭ ‬لا‭ .!‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى