لم يكن مفاجئا أن تتطور خلافات تنظيم فاغنر الروسي وقيادات الجيش في هذه الدولة الوازنة بالمسرح السياسي الليبي بعد أن استطاع هذا التنظيم العسكري شبه الخاص أن يعيد لروسيا ما فقدته في أكثر من مكان بالشرق الأوسط عامة وأفريقيا على وجه التحديد، فما دامت هذه القوة العسكرية قد اطمأنت لما حققت، وما دام الاعتراف قد تم بأكثر من مكان والذي بلغ ذروته عربيا في عودة النظام السوري للجامعة العربية وفي تناغم ملحوظ مع قيادات الخليج العربي، وما دامت هذه القوة العسكرية قد أثبتت وجودها في الحرب الأوكرانية بالقدر الذي ميزها عن الجيش النظامي، حتى أن قائدها لم يُخف انتقاده لوزير الدفاع الروسي ويحمله مسئولية أكثر من إخفاق بمعارك أوكرانيا، فإن النتيجة الطبيعية تفرض أن يستحيل بقاء رأسين في الجسد الروسي، ولم يكن لبوتين غير أن يختار بين الحفاظ على الدولة كمؤسسة أو فاغنر التي ربما كان يرى فيها الأخلص والأقدر على شد أزره، وبدا أنه قد رجح كفة الدولة، ولكن إلى أي حد سيوفق؟ فذلك ما ستثبته الأيام، أما تنبه الذين استهواهم ما فعله بوتين بشأن تأسيس الفاغنر أو تبني فكرتها وبالطبع تمويلها، وما أخذ يلوح في الأفق من استحالة اللعب على الحبلين في بعض الساحات المستفيدة من الحضور الروسي وما إذا كان هؤلاء سيدركون هذه الإستحالة بوعي كامل وتصرف حازم، فالزمن وحده الذي يملك البرهان، على أن التاريخ يعلمنا أن كل سلطة تتحقق بواسطة السلاح، فإن المحافظة عليها تحتاج هذا السلاح، غير أن حامل السلاح لا يقبل دوما مهمة الحراسة، فالطبيعي أن يحكم هو، وذلك هو الإشكال الكبير، وإذا كان قائد الفاغنر قد غادر روسيا وكذا أعفي أتباعه من الملاحقة قد يشي بنزع فتيل الأزمة، كما أن تردد الحذر من سفك الدماء قد يبعث على اطمئنان بعض المعنيين بالنفوذ الروسي وسلاحه وتدخلاته، إلا أن ما يتوفر عليه التفكير العسكري من عدم الثقة في أهلية العنصر المدني ولو كانت الفكرة السياسية واحدة، يظل يبعث دوما على مزيد الحذر والتوجس وإمكانية تنامي الروح الانقلابية التي لم يسأم منها غورباتشوف، إنها دروس التاريخ التي كثيرا ما يتأخر العمل بها إلى ما بعد فوات الآوان. وأخيرا ليت بعض القوم يعلمون.