
يخالط مفهوم «العفو»، أو «الصفح» الكثير من المغالطات في أذهان البعض الذين يعتقدون بأن )الصفح، أو العفو( يمكن أن يحدث دون اعتراف مرتكب الجريمة بجرمه. فكيف يمكن العفو عمن لا يعترف أساسًا بجرمه، أو بأنه ارتكب جرائم ضد الإنسانية؟؛ فالاعتذار وطلب العفو هما من أولويات الصفح على من ارتكبوا جرائم ضد شعوبهم وضد الإنسانية، ولكن حين يرفض المخطئ الاعتراف بأخطائه ويستمر في غيّه وتوجهه المنافي للمعايير الإنسانية، فكيف يمكن التصالح معه أو العفو عنه؟
الكتاب المهم والعميق )الصفح.. ما لا يقبل الصفح.. وما لا يقبل التقادم( للفيلسوف الفرنسي «جاك دريدا»، وقام بترجمته عن الفرنسية المترجمان مصطفى العارف، وعبد الرحيم نور، يناقش موضوع الصفح كتصرف أخلاقي واعٍ ومسؤول، يقوم به شخص ما سبق إن كان ضحية إساءة، أو أذى، أو جريمة تجاه الآخرين.
في بداية الكتاب يتحدث «جاك دريدا» عن بداية ظهور مفهوم الجريمة ضد الإنسانية بقوله: إن الفضاء القانوني الذي ظهر فيه مفهوم الجريمة ضد الإنسانية كان بعد الحرب العالمية الثانية في نورمبرغ عام 1945، وكان المفهوم إلى ذلك الحين مجهولًا.
ويناقش «دريدا» في كتابه أطروحات الفيلسوف الفرنسي فلاديمير جانكلفيتش الذي طرح موضوع الصفح في كتابيه «الصفح» «1967» و«ما لا يقبل التقادم» «1986»، وهو نقاش جاء متزامنًا مع النقاشات الفرنسية التي جرت عام 1964 حول عدم تقادم الجرائم النازية والجرائم ضد الإنسانية. حيث ذكر جانكليفيتش في كتابه “مالا يقبل التقادم” عدم قابلية التقادم وعدم ملاءمة الصفح، بل وحتى لا أخلاقيته، فتقادم الجرائم لا يلغيها ولا يجعلها ممكنة للصفح ونسيانها وعدم معاقبة مرتكبيها.
وقياسًا على أطروحة جانكليفيتش، فجرائم اليهود ضد الفلسطينيين هي أيضًا جرائم لا تقبل الصفح ولا تتقادم مهما مر الزمن. وكما اعترف العالم بالمحرقة النازية، عليه الاعتراف بظلم فلسطين التي تم احتلالها، وارتكاب أفظع الجرائم والمذابح ضد أهلها وتشريدهم إلى دول اللجوء والمنافي. ولكن جانكليفيتش لا يتحدث إلا عن محرقة اليهود ويصب جام غضبه على الألمان مطالبًا بعدم الصفح عن الأجيال الجديدة منهم الذين لم يكونوا مولودين خلال الحرب العالمية الثانية.
ويذكر الفيلسوف جانكليفيتش نقاطًا مهمة حين يتم الحديث عن الصفح عن الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية من خلال حجتين قويتين:
الأولى: هي أنه لا يمكن منح الصفح إلا إذا كان الصفح مطلوبًا، وإذا طُلب بطريقة صريحة. وهذا الفرق ليس بسيطًا، فالمرء لن يصفح أبدًا عن فرد ما لا يقر بخطئه، ولا يندم ولا يطلب الصفح.
وثانيًا: هي المسلمة الثانية التي تقول بأنه عندما تكون الجريمة شنيعة، وتكون متجاوزة لخط الشر الجذري، لا يعود هناك إمكان للصفح، لأن الصفح يجب أن يبقى بين البشر في حدود ما هو إنساني.
ولكن دريدا يرى في طرح جانكليفيتش، الرافض للصفح بشكل جذري، الكثير من المبالغة. ويرد على كل هذا الطرح بالنظر إلى التاريخ الذي يسبر غوره عبر التاريخ الديني والسياسي، والذي يجب أن يكون في قلب تفكيرنا. فالتقييد الوحيد للصفح في القانون وفي التشريع القانوني هو حق العفو الذي يقول عنه كانط: إن حق العفو، حق تخفيف واستبدال عقوبة مجرم ما، هو من بين حقوق الحاكم الأكثر حساسية والأكثر انزلاقًا والأكثر مفارقة، فهو يضيف اللمعان إلى عظمة وسمو الحاكم، ولكنه يشكل من هنا أيضًا بالنسبة للحاكم مخاطرة إتيان الظلم والتصرف بشكل جائر، لأن إسقاط العقاب سيشكل أكبر ظلم تجاه الرعايا. لا ينبغي أن يمارس حق العفو وبالتالي حق الصفح إلا في حالة جريمة ضد الحاكم نفسه.
ويذكر جاك دريدا بأن “الصفح يستلزم أن يدخل طرف ثالث إلى المشهد ومع ذلك يجب استبعاده. فلا أحد له الحق في الصفح مكان أحد آخر عن إهانة أو جريمة أو أذى مقترف. لا يتوجب الصفح باسم الضحية، إذا كانت هذه الضحية غائبة عن مشهد الصفح أو إذا كانت متوفية مثلًا، لا يمكن طلب الصفح من ناجين عن جرائم أصبح ضحاياها في عداد الموتى.”
ويناقش دريدا رأي جانكليفيتش الذي يؤكد على ضرورة طلب الصفح والعفو والرحمة وقبله التكفير، ووخز الضمير، والندم، والاعتراف بالذنب، وينتظر من المذنب أن يعترف بالخطأ ويعترف بالجريمة التي ارتكبها. بالتالي فهو يرفض فكرة الصفح ويرى بأن لا صفح قبل العقاب، فهو يراه حاجزًا من المتعذر اجتيازه، فهما خطابان منطقيان ونظامان أكسيوماتيكيان متناقضان ومتضاربان، لا يقبلان الصلح. أحدهما هو نظام أكسيوماتيكي الصلح أو المصالحة، بينما الآخر هو نظام أكسيوماتيكي ما لا يقبل الصلح. فهو يؤمن بأن المصالحة والصفح سيكونان وهميين وكأذيين ولن تكونا أصفاحًا حقيقية وإنما أعراض حداد، أعراض علاج للنسيان ولمرور الزمن.
الكتاب يعرض لآراء جانكليفيتش عن عدم إمكانية الصفح وما لا يقبل التكفير تجاه النازية فيما فعلته من محرقة لليهود، ورفض الكائن اليهودي بالمطلق واعتبار وجود اليهودي جريمة ويجب اقتلاعه من الوجود. وهذه الأطروحة يحاجج فيها دريدا عبر تفكيكه لمفاهيم الصفح والغفران، والشعور بالإثم، متسائلًا إذا ما كان الصفح خاصية للإنسان أم للإله؟
جاك دريدا في محاضرته المهمة عن “الصفح ما لا يقبل التقادم” يضيء جانبًا من الرؤية في هذه القضية المهمة التي تمس الإنسانية، وروح البحث عن العدالة في عالم مضطرب متسم بالإفلات من العقاب، ومحاولة الهروب من الجرائم عبر الاعتقاد بتقادم الجرائم. ولكن الجرائم لا تسقط بالتقادم بل تبقى حية في الضمير الإنساني ولا تموت، وليس لأحد حق الصفح عنها.
كم نحتاج للاستضاءة بمثل هذه الأطروحات الفلسفية التي تعمل على تفكيك مفاهيم مهمة مثل مفهوم الصفح، وخصوصًا في عالمنا العربي المتخم بارتكاب الجرائم ضد كل مخالف للرأي، ومن بينها الجرائم ضد الإنسانية التي قام بها نظام القذافي طيلة حكمه من خلال أذرعه الباطشة الموجودة منذ عشر سنوات في السجون، والتي تتعالى الأصوات للعفو عنها، رغم أنهم مدانون بجرائم فساد وجرائم تصفيات وقتل. وأيضًا إذا أسقطنا هذه الأطروحة على الانتهاكات والجرائم التي حدثت من جانب التشكيلات المسلحة خلال الأحداث والحروب المتعاقبة في البلاد خلال السنوات الماضية، فهي أيضًا لا تسقط بالتقادم بل تبقى في ذاكرة الشعب والتاريخ. فالصفح والمصالحة وجبر الضرر يجب أن يتم كما يقول دريدا في أجواء نقية بعيدة عن كل الحمولات السياسية والقانونية والدينية، والتي تقع ضمن إطار الابتزاز السياسي أو القبلي أو الديني، فكل هذه التصرفات ستمنع من طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة تبدأ بالاعتراف بالأخطاء وجبر الضرر والمصالحة بين الماضي والحاضر.