
حين تصبح الكهرباء حلمًا .. ويغدو المولّد صديقًا أليفًا .. لم يعُد مرعي يخطط لحياته، بل يخطط لانقطاعات التيار الكهربائي.
في التاسعة صباحًا؟ الكهرباء مقطوعة.
في الثانية عشرة ظهرًا؟ مقطوعة.
في الثالثة عصرًا؟ مقطوعة، مع رائحة وقود ديزل تنبعث من بيت الجار.
بات مرعي لا يعيش على التوقيت، بل على ضوء الشموع.
قال ذات يوم: لو كنتُ مولودًا في العصر الحجري، لكانتْ حياتي أكثر استقرارًا.
يتحدّث مرعي عن ماكينة الصرف الآلي، صديقته القديمة.
كان يقف أمامها كل مطلع شهر، يُدخل بطاقته، فيظهر له على الشاشة: )الرجاء المحاولة لاحقًا(.
قال: «هذه ليستْ ماكينة صرف، هذه آلة تذكّرني أنني أعيش في ليبيا».
وحينما تعود الكهرباء فجأة في منتصف الليل، ينهض فرحًا، يشغّل الغسالة، والمكيف، وجهاز شحن الهاتف، كمن دخل سباقًا مع الزمن.
قال: «يجب أن أعيش عمري كله في هاتين الساعتين .. قبل أن يعود الضيف الثقيل: طرح الأحمال».
الكهرباء في ليبيا لم تعد خدمة عامة، بل مناسبة نادرة.
يحتفل النَّاس بعودتها، يهلّلون، ويصبّون القهوة، ويقولون: «جاء النَّور ..!!»
البعض يبكي فرحًا، لا لعودة التيار، بل لأن «المولّد أخيرًا ارتاح».
مرعي قال: «أنا شابٌ في العشرينيات من عمري. أحلم بالاستقرار، بالزواج، بمنزل صغير فيه ضوء دائم ومروحة لا تصدر أنينًا».
لكن بدلاً من ذلك، صار يحلم بجهاز باور بانك لا ينفد، ومولّد لا ينفجر.
يحكي عن جاره الذي فتح مشروعًا لتأجير المولّدات.
قال: «الرجل يعيش من أزمتي .. فتح مشروعًا فوق جراحي !!».
ثم ضحك وأضاف: «أنا شاب، لكن ما أمرّ به يجعلني أشعر أنني تجاوزتُ السبعين».
جرّب مرعي أن يركّب نظامًا للطاقة الشمسية. قالوا له: «تحتاج إلى ثمانية آلاف دينار».
ردّ: «هل أحصل على الكهرباء مقابل رهن كليتي؟ أم أبيع المروحة لأشتري لوحًا شمسيًا؟»
أصبحت الكهرباء أكثر ما يشغل مرعي. يتحدث عنها أكثر من الحب، وأكثر من أسعار الوقود.
قال: «لم أعد أحلم بأن أكون مذيعًا أو شاعرًا، بل فقط… متصلًا بالتيار».
يستمع إلى المسؤول وهو يقول: «المشكلة في الاستهلاك المفرط». وهو يعيش بين ثلاجة خالية، ومروحة متهالكة تصدر صوتًا كأنها تحفر قبرها ببطء.
قال: «المواطن أصبح المتهم الأول… رغم أنه الضحية الأولى».
ولم يغفل مرعي الحديث عن «البتكوين» التي تستهلك الكهرباء أكثر من عشر عائلات.
سمع عن مزرعة لتعدين العملات الرقمية في مصنع مهجور.
قال: «يبدو أن البتكوين لها كهرباء خاصة… أما أنا، فلا أجد مكانًا أشحن فيه هاتفي».
بات مرعي يعرف جدول الطرح أكثر من جدول مواقيت الصلاة.
وصار يشعر أن كل جهاز كهربائي في بيته عدوّ متربص.
حتى جهاز التحكم عن بعد (الريموت) يتحاشاه، قائلًا: «لا أريد أن أتعلّق به فأُصدم مجددًا».
ومع كل هذا، ما زال مرعي يضحك…ضحكة نصفها يأس، ونصفها استسلام.
وعندما يُسأل: «كيف حالك؟»
يقول: «صامد… أعيش على الشمعة، وأطفئ نفسي بالأمل».
ويختم قائلاً:
«أنا لا أريد أن أهاجر، بل أن أعيش في بلادي… لكن على ضوءٍ، لا على ضيقٍ.».
كتبت : عبير على