منبر للعلم .. أم مصنع للترند !!
كان يُفترض أن تكون المدرسة بيتًا ثانياً للطالب، مكانًا يتعلّم فيه معنى الانضباط، والاحترام، وحب المعرفة، لا مختبرًا لتجارب «الترندات» الفارغة التي تستهلك الوقت، والمال، والعقل معًا.
لكن يبدو أن التعليم عندنا تغيّر وجهه، وأن جيلاً جديدًا يترعرع على إيقاع «التيك توك» لا على رنين الجرس المدرسي.
في الآونة الأخيرة، اجتاحت مدارسنا ظواهر غريبة لم تعرفها الأجيال السابقة، حملتْ عناوين براقة لكنها في جوهرها خواء.
«ترند» تلو الآخر يظهر في فصول البنات، خصوصًا في المرحلة الثانوية، وكأن المدارس تحوّلتْ إلى استوديوهات تصوير جماعية لا فصول دراسة.
بدأتْ القصة بما يسمّى «ترند» «صورتك وأنتِ صغيرة»؛ حيث تتسابق الطالبات لجمع صور الطفولة وطبعها في لوحة جماعية، بعد دفع مبلغ مالي لكل مشاركة.
مَنْ ترفض، أو تعجز عن الدفع تُقصى من المجموعة، وتُنبذ من «القروب»، وتُعامل وكأنها ارتكبتْ خطيئة !.
تحولتْ المدرسة إلى مساحة تصنيف اجتماعي مصغّر، يُقاس فيه «الانتماء» بمدى المشاركة في موضة رقمية لا معنى لها.
ثم توالت «الترندات» كالسيل الجارف:
ترند «الكورنفليكس والنوتيلا»، ترند «الفطور الجماعي»، وأخيرًا «ترند الشبشب»!.
نعم، الشبشب .. الطالبات يذهبن إلى المدرسة ومعهن شباشب البيت، في استعراض جماعي مبرمج في الفصل دون علم أحد، يُصور وينشر، وسط تصفيق وتشجيع ويعبرونه نشاطًا لطيفًا..!
أي عبث هذا؟ وأي تراجع تربوي يجعل من الاستعراض بديلًا للعلم؟
المدرسة التي كانت تزرع فينا القيم، وتربينا على الجدية والانضباط، باتتْ اليوم مساحة مفتوحة للعبث؛ حيث تحلّ المظاهر محلّ الجوهر، والفراغ محلّ الفائدة.
صار الطالب يعيش تحت ضغط «المشاركة»، لا من أجل التفوق، بل من أجل ألا يُقال إنه «خارج الموجة».
تبدّلت المعايير، وانهارتْ الحدود بين ما هو تربوي، وما هو عبثي، بين النشاط الهادف والفراغ المقنّع بالمتعة.
أولياء الأمور بدورهم يعيشون في مأزق دائم.
كل يوم طلب جديد، مساهمة جديدة، ترند جديد !!
واجبات، تجهيزات، ومصاريف لا تنتهي.
مدرسة لا تكتفي بتكاليف الكتب والزيّ، بل تطلب أيضًا «نوتيلا وحليب وديكور» باسم الأنشطة!
تحوّلت المدرسة من بيئة لتخفيف الأعباء إلى عبء إضافي على كاهل الأسرة، وكأن التعليم صار ترفًا لا حقًا.
المؤلم أكثر أن بعض المدارس والمعلمات يسايرن هذه الظواهر، لا رغبةً فيها، بل خوفًا من الاصطدام بالطالبات، وأولياء أمورهن، وكأن الإدارة التربوية فقدتْ زمام المبادرة في توجيه السلوك.
لا أحد يريد أن يقول )لا( خوفًا من أن يُتهم بأنه متشدَّد، فاستشرى الداء تحت غطاء «الحرية»، و«المرح».
لكن الحقيقة الصادمة هي أن ما يحدث ليس تسليةً بريئةً، بل تطبيعًا تدريجيًا مع السطحية والانفلات.
هذه الترندات تغرس في الجيل فكرة أن القبول الاجتماعي أهم من العلم، وأن المظهر أهم من الجوهر، وأن ما يراه الآخرون على الشاشات أهم مما يكتسبه المرء من معرفة.
وهذا خطر تربوي لا يقل عن خطر الغش، أو العنف المدرسي، بل قد يكون أشد فتكًا، لأنه يقتل المعنى من الداخل.
المدرسة لم تعد تصنع المتفوقين، بل تصنع المتابعين.
لم تعد تنشغل بتخريج العلماء، بل بصناعة الصور.
وغابت عنها روح التنافس الشريف، لتحل محلها «المشاركة الجماعية في اللاشيء».
إن ما نحتاجه اليوم ليس قرارًا إداريًا بوقف الترندات فحسب، بل نهضة فكرية تعيد للمدرسة هيبتها، وللنشاط المدرسي جوهره التربوي.
نحتاج إلى عودة مسابقات الرسم والمسرح، إلى مهرجانات القرآن الكريم، إلى الفرق الرياضية والكشافة والمواهب، لا إلى لوحات «النوتيلا» وأحذية «الشبشب»!
أيتها الوزارة…
يا مكاتب الشؤون الاجتماعية…
يا إدارات المدارس…
التعليم ليس لعبةً تُدار بخوارزميات الترند.
المدرسة ليستْ صالون تجميل، ولا مقهى مفتوحًا، بل منبرًا لصناعة العقول وغرس القيم.
من حق هذا الجيل أن يتعلّم، لا أن يُستغل، ومن واجبنا أن نحميه من ثقافة تسرق عمره وعقله تحت شعار «المتعة».
لقد آن الأوان لأن نقولها بوضوح:
أوقفوا عبث الترند قبل أن يبتلع المدرسة بأكملها.
فالتعليم إن خسر هيبته، خسرنا كل شيء.



