
في عصر التكنولوجيا، والرقمنة، في زمن تتسارع فيه الأحداث والتحولات، يبقى التوثيقُ والأرشفة حجر الزاوية الذي تُبنى عليه ذاكرة الأمة، ووعيها فهو ليس مجرد عملية تخزين للبيانات. إنما هو حكاية الماضي التي تفسر لنا الحاضر، وتضيء لنا الطريق نحو المستقبل .. في ليبيا حيث مرتْ سنواتُ من التحديات والفوضى تبرز أهمية الحفاظ على هذا السجل التاريخي فكل وثيقة، كل صورة، وكل مخطوطة، هي جزء من قصة هذا الوطن وشعبه، وإهمالها يعني فقدان جزء من هويتنا وذاكرتنا..
هدف استطلاعنا الصحفي ليس فقط لرصد الوضع الراهن للتوثيق والأرشفة في ليبيا، بل أيضًا لكشف التحديات التي تواجه هذه العملية، والمبادرات الفردية والمؤسساتية التي تسعى للحفاظ على هذا الإرث، ودور كل فرد منا في حماية هذه الذاكرة الوطنية .. نحن هنا نسعى لإطلاق حوار وطني حول كيفية بناء أرشيف يليق بتاريخ ليبيا العظيم، ويضمن للأجيال القادمة أن تعرف قصتها بالكامل بعيدًا عن التشويه، والتزييف، والتلاعب.
اسئلتنا لم تكن على حد سواء مع الكل؛ حيث طرحنا أسئلة وتساؤلات لكل من شارك معنا كل حسب علاقته بالتوثيق والأرشفة والتجميع..
وكما هو معروف أن للشعر الشعبي دورًا كبيرًا في حفظ تاريخ ليبيا عبر النصوص الشعرية، والروايات الشفوية لعديد الشعراء كان من المفترض أن يكون معنا في ملفنا الباحث في التراث أ. أحمد النويري لإثراء هذه الجزئية من الموضوع لكنه تعرّض لعارض صحي منعه من المشاركة…
وفي السياق ذاته كانتْ لنا وقفة مع السيد يوسف كركام مؤسس منصة «قوافي» الإلكترونية للشعر والتراث الشعبي الذي قام بتوثيق الأرشيف الكامل للأستاذ النويري وعديد الشعراء..
هل لديكم اهتمامات شخصية لتوثيق التراث قبل إنشاء منصة «قوافي»؟
نعم هناك اهتمامٌ بأهمية توثيق التراث، وهو ما دفعنا أن نفكر في إنشاء تطبيق، ومنصة إلكترونية يضمان الشعر والموروث الشعبي الليبي.
غياب الوثيقة على مستوى الدولة في جميع مناحي التوثيق ومنها توثيق الشعر والتراث المحلي هل كان الدافع الأساسي لهذه الخطوة؟
الدافع الرئيس هو حب الموروث الليبي ومن خلاله جاءت فكرة البحث عن طريقة يمكن من خلالها تجميع الموروث الليبي في مكان واحد فكان تطبيق «قوافي» هو وسيلتنا لذلك.
كيف أسهمت المنصة في توثيق وحفظ التراث الشعري الليبي؟
تطبيق «قوافي» هو مشروع وطني كبير، ونراه كذلك لأنه غير مسبوق، وقد تجاوز فكرة المساهمة كونه مشروعًا متكاملاً يجد فيه المهتم والباحث والشغوف بالشعر والتراث كم كبير جدا لإشباع نهمه.
الشعر الشعبي كان من أهم وسائل توثيق تاريخ الجهاد الليبي شفويا.. هل لديكم نماذج من هذا التوثيق؟، ولمن من الشعراء؟
نعم يوجد في منصتنا نماذج من الشعر الشعبي الذي يحكي عن تاریخ الجهاد الليبي ضد الاحتلال الإيطالي، ومن أمثلة ذلك الشاعر المعروف رجب بوحويش رحمه الله صاحب قصيدة ما بي مرض غير حبس العقيلة..
ماهي أنواع التوثيق المعتمدة لديكم في المنصة؟ اعتمدنا في التوثيق للشعر على التسجيلات الصوتي مع أصحاب هذه الأشعار هذا بالنسبة للأحياء، أما من توفاهم الله فكان عن طريق عائلاتهم أو من ينوب عنهم، أما فيما يخص الأمثال الشعبية والمرويات وغيرها سواء الصوتية أو المكتوبة فكانت عن طريق الموثق والإعلامي الكبير الأستاذ
أحمد النويري فهوأحد أهم ركائز هذا التطبيق.
درنة الزاهرة كانت حاضرة في استطلاعنا برأي للشاعر والمهتم / فارس برطوع..
ما هو تقييمكم للوضع الحالي للتوثيق والأرشفة في ليبيا؟
الوضع الحالي يعاني من ضعف شديد، إذ لا توجد منظومة وطنية حديثة ومنظمة لحفظ الوثائق، وغالبية الأرشيفات الرسمية إمّا تعرضت للإهمال أو الفقدان نتيجة الحروب والانقسامات، فيما بقيت الجهود مشتتة وفردية أكثر من كونها مؤسساتية.
ما هي أبرز التحديات التي تواجه عملية التوثيق في ليبيا؟
غياب مؤسسة وطنية مركزية قوية للأرشفة، نقص الكوادر المتخصصة في علوم التوثيق والأرشفة، تدمير وضياع الأرشيفات خلال النزاعات المسلحة، ضعف الوعي العام بأهمية حفظ الوثائق، و غياب التشريعات التي تنظّم عملية الحفظ والتوثيق.
ما هي أكثر أنواع الوثائق عرضة للضياع أو التلف في الوقت الحالي؟
الوثائق الإدارية والسياسية ما بعد 2011، أرشيف المحاكم والبلديات، سجلات العقارات والأراضي، إضافةً إلى المواد السمعية والبصرية (صور، تسجيلات فيديو وإذاعة) التي غالبًا لا تُحفظ في بيئة تقنية مناسبة.
ما هو الدور الذي تلعبه منظمات التوثيق غير الحكومية في سد الفجوة التي يتركها غياب الأرشيف الحكومي؟
هذه المنظمات تسعى إلى جمع الشهادات، الصور، الوثائق المحلية، وأحيانًا الرقمنة، لتشكيل أرشيف بديل أو موازي. رغم محدودية إمكانياتها، إلا أنها تساهم في حفظ جزء من الذاكرة الوطنية، وتسد ثغرات مهمة في ظل غياب المؤسسات الرسمية.
كيف يمكن للمؤرخين المساهمة في حفظ الذاكرة الليبية في ظل غياب الأرشيف الوطني؟
من خلال جمع الروايات الشفوية، تحليل الوثائق المتناثرة، كتابة دراسات علمية معمقة، توثيق الأحداث الجارية، والضغط من أجل إنشاء أرشيف وطني حديث. المؤرخون يمكن أن يكونوا حلقة وصل بين الجهود الفردية والمؤسساتية.
هل توجد مبادرات فردية أو جماعية لتوثيق تاريخ ليبيا الحديث؟
نعم، هناك محاولات من باحثين، صحفيين، ومؤسسات مجتمع مدني، وكذلك مبادرات رقمية على شبكات التواصل الاجتماعي لتوثيق الصور والأحداث. لكنها تظل متناثرة وغير مؤطرة ضمن مشروع وطني شامل.
ما هو رأيكم في الاعتماد على الرواية الشفوية كمصدر للمعلومات التاريخية في ظل غياب الوثائق المكتوبة؟
الرواية الشفوية مهمة جدًا، خاصة في المجتمعات التي تعرضت أرشيفاتها للتدمير أو الإهمال. لكنها تحتاج إلى منهجية دقيقة، مثل التحقق من تعدد المصادر، وتوثيقها كتابةً وصوتًا وصورةً، لتصبح مادة علمية يمكن الاعتماد عليها.
في رأيكم، ما هي أبرز الفترات التاريخية التي تحتاج إلى توثيق عاجل في ليبيا؟
فترة الاستعمار الإيطالي وما تلاها من مقاومة، حقبة المملكة الليبية (1951 – 1969)، فترة حكم القذافي (1969 – 2011)، مرحلة ما بعد 2011 حتى اليوم، لما شهدته من أحداث مفصلية وحروب وانقسامات.
كيف يمكن للتقنيات الرقمية أن تساهم في جهود التوثيق في ليبيا؟
من خلال رقمنة الوثائق والمخطوطات والصور، إنشاء قواعد بيانات مركزية ومفتوحة للباحثين، حفظ النسخ الاحتياطية في خوادم محلية ودولية، استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لتنظيم وفهرسة المواد، و نشر الأرشيفات إلكترونيًا لإتاحتها للجمهور ومنع احتكارها أو ضياعها.
عند أي حديث عن التوثيق والأرشفة وحفظ التراث لابد وأن نذكر اسم الأستاذ أحمد دعوب مدير مركز بحوث و دراسات الموسيقى العربية وباحث ومهتم بتوثيق التراث لجهوده الواضحة في هذا المجال ومن هنا كانت له مشاركة معنا…
في ليبيا للأسف الشديد أن الصحوة بأهمية التوثيق والوثيقة والاهتمام بالتاريخ جاءت متأخرة جدا بعد أن فقدنا العديد من الأسماء لأناس كان لهم باع طويل وشهدوا وعاشروا حقبات مختلفة كما أن أدوات التوثيق تعتبر مفقودة إلا ما ندر منها، بعض الوثائق، مرحلة المسوحات الميدانية ، مرحلة التوثيق الشفوي والأرشفة كل هذه الأشياء بدأت بها الدول الأخرى بشكل مبكر جدا في ثلاثينيات العقد الماضي بالنسبة لنا حتى لو بدأنا في الثمانينات هذا أمر جيد لكن للأسف..
وفي هذا الاتجاه أبارك خطوات مركز المحفوظات والدراسات التاريخية الذي يعتبر الآن هو الجهة الوحيدة المؤرشفة والحامية للتاريخ الليبي ، تواجه عملية التوثيق عديد التحديات لعل أهمها غياب الوثيقة بذاتها المرجعية التي تكون داعمة في عملية البحث والتحقيق والاكتشاف والتوثيق، جميع الوثائق متعرضة للضياع والتلف الورقية منها والمرئية والمسموعة والمؤرشفة إلكترونيا ولكن التحدي هو الحفاظ على هذه الوثائق وما تحمله من قيمة تاريخية بالأرشفة السليمة واتباع أسلوب علمي في التوثيق..
نعم، توجد مبادرات فردية للتوثيق ونحن من خلال المركز القومي للبحوث والدراسات الموسيقى العربية نسعى جاهدين للاهتمام بالجانب الفني والموسيقي وخلال أيام ستنطلق أعمال لجنة تجميع تراث فن المالوف التي تعمل على توثيق فن المالوف مسموع ومكتوب باختلاف الروايات كذلك مدون تدوين موسيقي صحيح وإيقاعي وستكون هناك خطوة لأول مرة في التصحيح وهي تصحيح المفردة واستكمال المنقوص منها ونسعى جاهدين لجمع شتات الوثائق من مختلف دول العالم لكل ما يخص التراث الموسيقي ليكون ملاذا لكل باحث ومؤرخ في التراث الموسيقي…
لابد من مواكبة العصر الآن التقنيات الحديثة في عملية الأرشفة والتوثيق النسخ ورقمنة لكل المواد الأرشيفية المقروءة والمسموعة والمرئية بحيث تتم العملية بإدخالها في أرشيف وحفظها وإعطائها أكثر من نسخة لحفظها في أماكن متعددة…
استلمت مهامي في إدارة المركز عام 2015 ولم أجد فيه أي وثيقة صوتية وبدأت فعليا في عملية التوثيق والأرشفة والتجميع وكل وثيقة جديدة نحصل عليها هي مكسب للمركز ولكل البحاث والمهتمين بالموسيقى والتراث.
وحتى لا يقال عنا « حوش النجار بلا باب « ونحن نبحث عن التوثيق والأرشفة في عديد المؤسسات والجهات العامة والخاصة والأفراد المهتمين لم ننسى أننا معنيين أيضاً بهذا الموضوع كصحفيين وكهيئة عامة للصحافة من مهامها توثيق وأرشفة الصحف والمطبوعات ولها في ذلك إدارة كاملة تعمل على هذه المهمة ورقيا وإلكترونيا..
من إدارة التوثيق والمعلومات بالهيئة العامة للصحافة حدثنا الأستاذ المبروك بزيك عن التوثيق والأرشفة والمعلومات…
حدثنا عن اهم مراحل التوثيق في الهيئة العامة للصحافة وماهي الصحف والمطبوعات التي تم توثيقها فعليا لديكم ؟
كما وضحت بداية اللقاء أن التوثيق في كل المؤسسات هو الذاكرة الأساسية التي يمكن الرجوع إليها، والاعتماد عليها والاستفادة منها لما تحتويه من معلومات دقيقة خفضت وبوبت بالشكل الذي يسهل استرجاعها والاستفادة منها بسهولة وانسيابية.
وندرك جميعاً أن ارشيف الهيئة العامة للصحافة يمثل بلا أدنى شك الذاكرة الأساسية للصحفي،
وتسعى هذه الإدارة إلى بناء مشروع وطني يتظمن قاعدة بيانات صحفية منظمة تتميز بالدقة والانسيابية، وقد عملت هذه الإدارة لتحقيق مجموعة من الأهداف منها توثيق وحصر وتصنيف المطبوعات الليبية، حفظ مايمكن تسميته لحقوق الملكية الفكرية.
توظيف التقنية في مجال التوثيق والمعلوماتية، توثيق الأعمال الإبداعية الثقافية والإعلامية الصحفيين والكتاب والمثقفين.
تعد إدارة التوثيق والمعلومات ومن باب تخصصها
أرشفة الصحف والمجلات الصادرة عن الهيئة، كما وتجليد الصحف دورياً ليسهل الرجوع إليها بشكل منظم..
كما تقوم الإدارة بحصر وتوثيق أسماء الصحف والمجلات الصادرة في ليبيا.
الصحف الرسمية الصادرة عن الهيئة
التوثيق الإلكتروني لديكم تجربة فيه كيف بدأت والى أين وصلت؟
تعتبر عملية الأرشفة الإلكترونية في الهيئة العامة للصحافة ضرورة ملحة لحفظ التراث الصحفي وتسهيل الوصول إليه، لكنها تواجه تحديات كبيرة أدت إلى تعثرها في الآونة الأخيرة.
لقد شهدت إدارة التوثيق والمعلومات في الصحافة ما بعد 2011م، تحولاً جذريا بفضل التسارع التقني، مما أحدث نقلة نوعية في كيفية جمع، تخزين، استرجاع، ونشر المحتوى الإعلامي، لم يعد الأمر يقتصر على الأرشفة الورقية والمكتبات الضخمة، بل أصبح عملية التخزين بصيغة(pdf) يعتمد على أنظمة رقمية متطورة، وقد استفادت صحف الهيئة بالكامل من تخزينها على وحدات تخزين خارجية، ولكن سرعان ما ضعفت وتيرة العمل تدريجياً في هذا الجانب نظرا لقلة الدعم وصرف المبالغ لإنجاح قسم التوثيق الإلكتروني بالإدارة وهو ما لا يتوفر غالبا لدى المؤسسات الصحفية الليبية التي تعاني من ضائقة مالية.
كما أن الاهتمام بالكوادر واستثمارهم في التدريب في مجالات الرقمنة والأرشفة الحديثة، يضمن استمرارية ونشاط التوثيق والارشفة.
هل قدرتم نسبة الضائع والمتلف من الصحف والمطبوعات؟
للأسف، تعرص الأرشيف لعمليات تلف وضياع ممنهجة وغير ممنهجة بعد عام 2011، ويمكن إرجاع هذه الأسباب إلى الأتي:
هذا الإهمال لم يكن مجرد صدفة، بل كان جزءا من سياسة محو الذاكرة التاريخية التي كانت تهدف إلى جعل المواطنين ينسون مراحل سابقة من تاريخهم.
مع انهيار مؤسسات الدولة، تعرضت العديد من مقرات الصحف والمجلات والمكتبات العامة والمراكز الثقافية للنهب والسلب، مما أدى إلى سرقة وتخريب محتوياتها، بما في ذلك الأرشيفات الهامة.
في ظل غياب الرقابة الأمنية، شهد مبنى هيئة العامة الصحافة التي كانت تحتفظ بالأرشيفها حرائق متعمدة أثناء إصابة المبني بقدائف أثناء ثورة فبراير.. مما أدى إلى احتراق وتلف أعداد كبيرة من مجلدات الصحف والمجلات الهيئة العامة للصحافة.
ختــــــــاماً..
بصراحة ينجح مجال التوثيق والمعلومات في الصحافة عندما ينظر إليه ليس كعمل إداري، بل كجزء أساسي ومكمل للعمل الصحفي، إنه العمود الفقري الذي يضمن أن كل كلمة تكتب، وكل قصة تروى، مبنية على أساس صلب من الحقائق والبيانات الدقيق، ويجب الاهتمام بالكوادر وتدريبهم على احدث ما توصلت إليه التقنيات الحديثة في مجال الأرشفة الإلكترونية،