
تحقيب الشعر، أو الفنون عموماً، وفق أجيال عَقدية، قد يسرد تاريخ الشعراء وفق أعمارهم، لكنه لا يسرد تاريخ الشعر، لأنّ كتابة التاريخَين مختلفة تماماً. يقر الروائي المؤرخ للرواية الأوروبية وفق اكتشافاتها الجمالية والمعرفية أن «في هاتين العبارتين: تاريخ ألمانيا، تاريخ فرنسا، يختلف المضاف إليه بينما يحتفظ مفهوم التاريخ بالمعنى ذاته.
وفي عبارات: تاريخ الإنسانية، تاريخ التقنية، تاريخ العلم، تاريخ هذا الفن أو ذاك، ليس المضاف إليه هو فقط المختلف، بل حتى كلمة «تاريخ» تعني كل مرة شيئًا مختلفًا. بينما يقول الألمعي )جوليان جراك( «تاريخ الأدب، على العكس من التاريخ فقط، يجب أن لا يتضمن إلا أسماء الانتصارات، ما دامتْ الهزائم فيه ليستْ انتصارًا لأحد».
حاولتُ كتابة تاريخ للشعر الليبي بادئًا من السؤال المبكر والمقلق للناقد خليفة التليسي «هل لدينا شعراء؟!» لكني أخفقتُ كمن يبحث عن إبرة في كومة رمال، أو كمن يحاول أن يجمع خيوط حرير من غابة شوك، وفي السياق نفسه تبدتْ الهوية كهلام كلما حاولتُ لمسها. ولكن فلنبدل سؤال التليسي بسؤال آخر: هل لدينا تاريخ للشعر؟ إذا ما افترضنا مبدئياً أن التاريخ المقصود يعني تاريخ الانتصارات في ملحمة الشعر الليبي.
للرواية الغربية، وللموسيقى، وللمسرح والرسم والشعر أيضاً تاريخ، استطاعتْ الحركة النقدية المواكبة لكل هذه الفنون أن تكتبه بشكل تراكمي وتحدد مساراته، ومنعطفاته، وثوراته، والأهم من ذلك أن هذا السرد يرصد تاريخ الاكتشافات، وتتبع مسار الثيمات الإنسانية التي تم طرحها وتجاوزها تباعاً. فثمة مبدعون يوسعون مجال الإبداع أفقياً، وثمة مبدعون عبقريون يحفرون فيه رأسيًا. فأين نحن من هذا؟ وما مدى إمكانية تلمس تاريخ من هذا القبيل للشعر الليبي؟. هل تاهت هذه التجربة مع غياب السرد التاريخي الذي يتابعها نقدياً، ما جعلها ولفترة طويلة تجربة أفقية تراكم نفسها على مدى السنين دون رسم خارطة لها؟. من خلال الرؤية الواضحة لهذا الماضي يمكن للشاعر الراهن أن يعرف أين يضع قدمه، أو بالأحرى قلمه، وبالتالي يذهب بالنقلات الشكلية في الشعر عبر دروب يضيئها هذا التاريخ الطويل، ويحددها البعد الزماني، ولا تستقي أوهامها من تجارب مكانية مبعثرة جعلت تجربتنا الحديثة مغرقة في تجريب الأشكال دون أن تبني تراكمًا يمكن سرده بانسياب دون تعثر. ويؤكد هذا المصير خلو تجربتنا الشعرية من «الجماعات» ومن «البيانات الشعرية» فيما عدا ظهور من سموا أنفسهم «التسعينيون» نهاية الألفية الثانية تقريباًً، وبكل ما لظاهرة الجماعات الشعرية وبياناتها من أهمية، إلا أن إصرارهم في بياناتهم على فكرة قتل الأب أو القطيعة التامة مع الماضي، جعلت من اليُتم المعرفي أو اللُّقاطة الشعرية مصيراً محتماً لغالب تجاربهم. ثمة تأريخ للشعر والفنون عموما، ليس بالتحقيب الكرونولوجي، ولكن انطلاقاً من أحداث زلزالية غيرت كل شيء، ما يجعلني أعتبر العام 2011 منعطفاً مهما لعديد الفنون العربية عموماً، بما فيها القصيدة الليبية خصوصاً. والحال مثلما كان يَعتبر معظمُ النقد العربي أن هزيمة يونيو العام 1967 شكلت هي أيضا منعطفاً زلزالياً غيّرَ طبيعة ووجهة وخطاب، وحتى أشكال عديد الفنون. رغم نبذي لمفهوم القطيعة كاستحالة زمنية، كتبتُ في بداية الحراك المجتمعي في تونس، ثم انتقاله إلى مصر، مقالةً تحت عنوان «جيل القطيعة»، تطرقتُ فيها إلى استثنائية هذا الجيل الرقمي الذي انفجرت مكبوتاته في تونس ثم مصر (لم تبدأ الثورة حينها في ليبيا) وهو جيل فاجأ العالم لأن الكثيرين كانوا ينظرون إليه كجيل خامل وغير مبالٍ، ولا تطلعات له، لكنه طيلة سنوات قبل الربيع العربي، كان معطياً للعالم بظهره، منكفئاً على شاشات يرضع منها الضوء وكأنها نوافذ مشرعة خارج الحدود بإطلالة واسعة على متغيرات العالم السريعة. وقبل أن يكون الإنترنت جزءا من متاع البيت الضروري، كنت حين أدخل مقهى إنترنت، أجده مكتظا بالشبان المنكفئين على هذه النوافذ، يقيمون صداقاتهم وعلاقات الحب في أصقاع الأرض، ويتابعون هذا الزخم التقني الذي يعدهم بالكثير، كي يغادروا عزلتهم التي فرضتها عزلة أنظمة كانت العتمة تقنيتها المفضلة لإعماء الحقائق ونشر الأشباح، وبالتالي كان الواقع الحي هو عالمهم الافتراضي، وهذا العالم الضوئي الجديد هو الحقيقي. وهذا بدوره انعكس على الشاعرات والشعراء الذين اختاروا القصيدة أداة تعبيرهم عن هذه الحساسية الجديدة. وإن كنت أذهب في الغالب إلى القطيعة بمفهومها السياسي وما ترتب عنه من تداعيات في المجال الاجتماعي، إلا أن الفنون لم تكن في منأى عن التأثر بهذه الظاهرة، خصوصاً في بدايتها الجمالية الملهمة والتي أحالت الشارع العربي إلى كرنفال ملون من الرفض والتمرد القَطْعي (هذه المرة)، لأن خطابات ما يسمى «الإصلاح» استُبدلت بهتاف جذري، والمفارق أنه لأول مرة يكون الهتاف نثرياً دون وزن أو قافية «الشعب يريد إسقاط النظام». وهذا الهتاف في حد ذاته شكّل نقلة جمالية في الشكل والمضمون، واستعاض بالهدم وإعادة البناء عن الترميم والتلفيق، واعتقد أن عديد الفنون استجابت لهذه الرغبة الشاملة، ونتائج الربيع العربي باديةٌ بجلاء على عديد الفنون الكتابية والبصرية، وهي نتائج غير مرئية في مرحلة تم ــ للأسف ــ اختزالها فقط في وجهها السياسي المُحبِط. في كتاب «أثر الطائر في الهواء» تطرقت أنا والشاعر عاشور الطويبي، في رسائلنا المتبادَلة، لهذه الظاهرة الشعرية الليبية الجديدة، حيث يقر عاشور أنه «بداية، لا بُدَّ من الاعتراف أن حراكًا شعريًّا بأصوات شابَّة جديدة أخذ يتصدَّر المشهد الشعري الليبي.». ويذكر من الأسماء «ريم المبروك، سراج الورفَلِّي، أنيس فوزي، وفيروز العَوْكَلي»؛ حيث يرى أنه «في كتابات هؤلاء الكثيرُ من الغضب، والذي يأخذ في كثير من الأحيان الدينَ كخصمٍ، والأخلاق كعدوٍّ. المفردة عند أغلبهم، وخاصّةً الذكور منهم، غير مُهذَّبة، وتقترب قصيدتهم من قصيدة شارلز بوكوفسكي.القصيدة البوكوفسكية حاضرة بقوة. غضب كبير وإحساس بالعبث واللا جدوى كبير؛ لعلَّ هذا لِصِغَر السِّنِّ، وقلَّة التجربة، وووووو… لكن ما عاشه هؤلاء في سبع سنوات يشيب له الرُّضَّع. شعريًّا، النُّضجُ يحتاج إلى وقت وحَفرٍ مُستمرٍّ من المبدع في روحه وعقله. وفي سنتين قفز سراج الورفلي بنصِّه قفزات كبيرة. هو يحاول تخطِّي نفسه، وهذا أمر بالغ الأهمية. من هذه الأصوات التي كتبت في الفلسفة والدين والشعر، أحمد المكِّي المستجير، وهو في تقديري يرى بعين واحدة، وقلب واحد، أعني أنه لا يرى الآخرين، ويمكن أن أصفه بالعلماني الديني. دعنا نتحدث عن فيروز العوكلي. فيروز تكتب وهي خائفة، كمن يقترب من فراشة ويخاف هروبها. هي لا تكتب مثل بوكوفسكي. خوفها، وربما الشَّكُّ في قدرتها كشاعرة عاملان مهمَّان لجعلها تتلمَّس طريقها في الشِّعر، وإن استمرَّت سيكون لها شأن كبير في المشهد الشعري؛ لأن القصيدة التي وراءها شاعرٌ خَوَّاف شَكَّاك تَصِلُ إلى معرفة نفسها ومكانتها. الخوف والشك علامة الطريق الصحيح، لكل مبدع. الشاعر الذي لا يخاف ولا يشكُّ، شاعِرٌ ميت. وخوفي أن يرضى الشعراء الجُدُد عن أنفسهم فيموتوا. وأجيبُه في رسالة تالية: « نعم، مثلما سُمِّيَت أجيال بالبودليرية، أو ربطت تجارب بجون بيرس، أو بجاك بريفيرا، أو إليوت، أو جيمي فريزر في بداية تحرُّر الشعر العربي من هاجسه القومي «القومي بمعنى استلابه تجاه تراثه القومي فقط وليس بالمعنى السياسي». هذا الجيل أقرب إلى البوكوفسكية وفق النصوص التي بعثتَها. ربما لم يسمعوا به أو يطَّلِعوا عليه مثل العديدين الذين سُمُّوا بالبودليريين، ولكن هذا هو سحر الشعر ومعجزته، ثمَّة إلهام واحد ينبع من لحظة قلق مشتركة في هذا الكون.».



