يوميات.. يعيشها لنصاعة بياضها وضبابية مــستــقبـلـها
يزيد العنقودي
المراهقون .. لا شك أنّ هذه الشريحة ذات الفئة العمرية الانتقالية الحرجة من مرحلة عفوية وبراءة الطفولة إلى زهو الصبا، ومراهقة الشباب تشكل انعطافاً كبيراً في حياة الإنسان الطفل الذي يلج مشارف مرحلة عمرية تالية تتأسس على بناء شخصيته، ونضوج فكره ورسم مساراته المستقبلية.
تينولوجي Teenology أو علم المراهقة .. كما هي ترجمته ودلالته التي تمثل توصيفاً جميلاً لهذه المرحلة السنيّة، حاول من خلاله الفنان الواعد/ يزيد زكريا العنقودي التعبير عن فكره وتجسيد تطلعاته البريئة، وإثبات وجوده الإنساني وحضوره الإبداعي بيننا في محيطنا، وبيئتنا الليبية بريشته، وألوانه، وخطوطه، وتكويناته لمشاكسة واستيعاب ما يطفو على سطح الحياة الظاهري، والتصدي بروح نقدية قد تكون صادمة حين يعتبرها بأنها بكل مكوناتها، دون أن يستثني نفسه وشريحته، ويُقر علانية بشجاعة عفوية وبلا خوف فطري )كلنا فاسدون(، ويضع ذلك الإقرار الوصفي لأجمل لوحاته التكوينية المهمة، لأنه يستشعرها من خلال افتقاد يوميات حياته التي يعيشها لنصاعة بياضها، وشفافية وصدقية واقعيتها، وضبابية غدها ومستقبلها، وحين سعى لاستكشاف الأسباب توصل إلى أننا )كلنا فاسدون( ربما لأننا مزقنا الوطن، وقتلنا روح المحبة، وقاتلنا أخوة لنا، ودمرنا مقدرات بلادنا، وضيعنا مستقبل، أولادنا وبناتنا، وتلاعبنا بشعارات الحرية، وحقوق الإنسان، وهو بكل هذا كأنه يستحضر بيت شعر للإمام الشافعي يقول:
نُعِيبُ زَمَانِنَا والعَيبُ فيِنَا
وَمَا لِزَمَانِنَا عَيْبٌ سِوَانَا
انتبهوا فإنّ Teenology ليستْ رسالة فردية شخصية لمراهق صغير يوجهها لنا .. وللمجتمع .. وللحكومة … ولصنَّاع القرار … وللوطن ليقرع الجرس دون إحساس وتدبر وفطنة ومسؤولية، بل هي رسالة شريحة عمرية ليبية بأكملها يتحدث )يزيد العنقودي( بلسانها ليقول لنا كذلك بأنَّ الحبَّ ممنوع في ظل تفشي هذا الفساد المتغوَّل على ذواتنا، يسكن فينا ويطوقنا بجميع ما يحيط بنا مادياً وفكريا .. كلَّ الحبِّ ممنوع .. )حبّ الوطن .. حبّ الخير .. حبّ الحياة .. حبّ الفرح … حبّ الأمل( .. لأنه لا يمكن لهذه المشاعر الحبية والأحاسيس النبيلة أن تنمو وتزدهر وتترسخ بجنب ما يتفاقم من فساد على جميع الأوجه .. يطالنا ويقودنا اجتماعياً وسياسياً وأخلاقياً وفكرياً …
ابن ليبيا )يزيد العنقودي( وهو في السابعة عشرة ربيعاً بكل براءة، ونقاوة سريرته، وطهارة عقله، يخاطب هذا المجتمع في لوحته )أوفر ثنك( بفلسفة بسيطة تتناسب مع مستوى عمره الربيعي لتعكس ما يدور في ذهنه، ويوثق وينشر على الملأ حواراته مع ذاته الحسّية الشعورية وكيانه العقلي الباطني، وكذلك مع أقرانه وأنداده معشر المراهقين حين يقول متسائلاً )التفكيرُ وسيلة ٌللوصول لأي شيء، فماذا لو زاد عن حده؟( ويضيف كذلك )هل الأحداث عشوائية فعلاً؟(.
إن أسئلة مثل هذه تدور في أذهان المراهقين لا بد أن نهتم بها، ولا نهملها أو نتغاضى عنها أو نتجاوزها، أو نخوّنها وندينها، بل لا بد أن تكون أساساً لحوارات ومناقشات مفتوحة معهم بكل روح أبوية ورياضية وفكرية للوصول معاً لإجابات مطمئنة لهم على مستقبلهم، ولنا على الجيل الذي سيستلم الراية لمواصلة قيادة مسيرة الحياة في هذه الربوع الليبية، وبالتأكيد فإنه من غير المعقول أن نصادر صوت عقلهم مهما كان شجاعاً وجريئاً حد الاستفزاز، لأنه كما يصف يزيد لوحته المعنونة )يجب أن يكون( بأنها )عبارة مبنية على الأمل( تاركاً لنا جميعاً البحث في ثنايا تفاصيل ذلك، وبالتالي لا يجب علينا أن نصدمهم في هذا الأمل المرتقب والمستقبل المأمول ونخيب ظنونهم فينا.
من الناحية الفنية التقنية اتسمتْ لوحات الفنان الواعد يزيد العنقودي بانتمائها الوثيق إلى ذاته الإنسانية الطفولية اليافعة المسكونة بهواجس السؤال الفكري البريء، والمتطلعة لمستقبل ووطن مشرق، يهديه محبته وعشقه وفنه وعمره فيمنحه مناخات رحبة من الحرية والتعبير والآمان، وتقديراً واحتراماً ودعماً وتشجيعاً لإبداعه، وكذلك توفير الأدوات والمتطلبات المادية لتأكيد وجوده الإنساني والفني، وترسيخ هويته الليبية وبصمته الإبداعية التي حتى وإن ظلت فيها خلفية اللوحات التي أنجزتها مطلية بالسواد فقد كانت ضرورية لإبراز جميع الخطوط والتكوينات المرسومة والألوان الأخرى المتنوعة التي تحملتْ، كلها، وعلى عاتقها، مهمة التعبير عن الرسالة المضمونية لكل لوحة، وهي رسالة بسيطة وقصيرة إلاّ أنها مكثفة ومكتظة بعناصر التشكيل لوناً ومضموناً.
أما من الناحية الشكلية فقد تكونت كل لوحة من جزئين، الأول يمثل التكوين التشكيلي الفني الذي يجسد الفكرة بكامل عناصرها، والثاني عبارة عن ورقة كراسة مسطرة صغيرة كتب عليها يزيد بخط يديه بعض دلالات اللوحة ومفاتيح التأمل فيها، وقد ظلت هذه الورقة تمثل عفوية خط الكتابة والإهمال الورقي وكأن الحياة بعثت فيها من جديد بعد طيّها وحذفها. ولا شك بأن كل هذه التفاصيل تؤكد عفوية التعاطي الفني مع الفكرة وأدواتها كافةً.
استمتعتُ كثيرًا مساء الخميس الماضي بحواراتي مع «يزيد العنقودي»، وردوده البسيطة الواثقة المتجذرة في فكره اليافع الذي لا يزال في طور التكوين والتشكل لرسم مسارات حياته التي نتمنى له فيها كل المحبة والمزيد من التألق والإبداع، والآمال المعقودة عليه ليست بغريبة، فهو حفيد أسرة المرحوم «محمد الحجازي العنقودي»، وابن الصحفي القدير «زكريا العنقودي» .. وهذا يكفيه لأن يكون زاداً ودافعاً للمضي لمستقبل واعد ينتظره ..
كما نحن ننتظره معه بكل شغف، ونقول له : ننتظرُ المزيد .. يا يزيد.