للحرب ثمن باهظ يدفعه الإنسان وفي كثير من الأحيان مجبر لا مخير ، هذا الثمن يتمثل في تأثيراتها المباشرة، وغير المباشرة عليه.
تشهد ليبيا منذ فترة ليستْ بالقصيرة حرباً أتت على أملاك المواطنين، وعكستْ آثاراً نفسانية واجتماعية قد يكون بعضها واضحاً للعيان بينما يسري بعضها الآخر دماراً وخرباً في النسيج الاجتماعي والنفس البشرية دون أن نلاحظ ذلك على الأقل في الوقت الحاضر.
وتعرف الحرب بأنها قتال بين فئتين، و تعد آخر الوسائل التي تُستخدم لفض النزاعات وفرض الإرادات بين الأطراف المتصارعة بعد نفاذ السُبل الدبلوماسية والضغوط الاقتصادية والوسائل الأخرى الممكنة ذات العلاقة ، وقد تنتهي الحرب باتفاق الأطراف المتنازعة سواء بوساطات من خارجهما أو باتفاق الطرفين المتحاربين لحلول مقبولة لكليهما أو نتيجة لفرض إرادة أحدهما على الآخر كنتيجة حتمية للانتصار، وهي على هذا الأساس لابد وأن تكون لها نهاية محدَّدة ، ومهما طال أمدها أو قصر فإنها لا تخلف إلا دماراً يطال موارد الوطن الاقتصادية وبناه التحتية الصناعية كانت أم الزراعية والتجارية .
لكن الأكثر ألماً والأشد تأثيراً هو ما يأتي على البنية الاجتماعية للمجتمع من دمار، وما يترتب عليها من مشكلات في الجوانب الأخلاقية وهو المعضلة الأكثر تأثيراً، وتعقيداً بعد الحرب ، خاصة وإنها تبقى ماثلة إلى أمد طويل من الصعب التنبؤ بنهايته.
وتختلف الآثار الناتجة عن الحرب سواء أكانت مباشرة أم غير مباشرة من مجتمع إلى آخر وفقاً لتحضّره وتماسكه، وطبيعة نظمه السياسية، وقيمه الاجتماعية، وعوامل أخرى، وتقدر بعض الإحصائيات أن عدد الشهداء في ليبيا تجاوز 5 آلاف شهيد سنة 2013، وبحسب تقرير بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لشهر يناير سنة2020م تجاوز عدد الشهداء الحرب الدائرة جنوب العاصمة طرابلس 284 شهيداً، هذه الأرقام يمكن قراءتها «اجتماعياً» وهي- تعد آثاراً مباشرة للحرب – بعدة معان:-
أ) فقدان الأب .. يتسبّب في إبقاء أسر بكاملها محتاجة من النّاحيتين المادية والاجتماعية، وأطفال في حاجة للمربي والقدوة والسند، وزوجة تواجه في أحيان كثيرة بمفردها ضغوط مجتمع لا يرحم، وعلى جانب آخر نجد أن فقدان الأسرة لابن قد يكون هو معيلها أو سندها سيخلف آثاراً نفسانية واجتماعية ستبقى قائمة لفترات طويلة.
وإذا ربطنا هذا الرقم بعدد الأرامل والأيتام سيكون لدينا رقمٌ مقاربٌ لهذا الرقم من هذه الفئة الفاقدة للرعاية الأبوية، وهو ما يخلف بالضرورة عائلة مبعثرة ينقصها الكثير .
ب – ما تخلفه الحروب من جرحي ومعوقين عن الحركة بسبب إصاباتهم البليغة، وقد تجاوز عدد الجرحى و المصابين في ليبيا بعد ثورة 17 فبراير الـ20 ألف جريح و 3 آلاف معاق ، أما عدد جرحى الحرب في جنوب طرابلس فوفق ما ورد في تقرير بعثة الأمم المتحدة في ليبيا لشهر يناير 2020 فقد تجاوز الـ 363 جريح.
هذه الإصابات تترك أثراً يعيق المعنيين عن ممارسة أعمالهم وحياتهم بالشكل الطبيعي أو تترك إعاقة دائمة تحول دون إمكانية ممارسة المصابين لحياتهم وأعماله، وفي حال عدم توفر الرعاية والدعم اللازم لمثل هؤلاء المصابين، سيترتب بالضرورة على هذه الإصابات اضطرابات نفسية اجتماعية، مثل عدم قدرة البعض على الزواج، ومن كان متزوجاً عدم القدرة على رعاية الزوجة والأولاد، وهذا سيترتب عليه أولاد محرومين وزوجات محرومات.
ج. وجود الأسرى والمفقودين، تسببت الحروب التي شهدتها ليبيا من 2011 في أعداد غير قليلة من المفقودين تجاوزت وفقاً لوزارة رعاية أسر الشهداء والمفقودين الـ 10.000 مفقود، ويشمل هذا العدد الأشخاص المفقودين نتيجة للصراع عام 2011، فضلاً عن أولئك الذين فقدوا خلال حكم معمر القذافي الذي استمر 42 سنة، وكذلك المفقودين في حرب 1977 مع مصر، وحرب 1979 مع أوغندا والحروب مع تشاد في الثمانينيات، وفي مذبحة سجن أبو سليم في طرابلس عام 1996م ، وكما أسلفنا الذكر يسبب غياب الأب والأخ والابن بالأم آثاراً نفسانية واجتماعية تتأثر بها الأسرة وتلقي بظلال ثقيلة عليها الأمر الذي يعيق حياتها بشكل طبيعي داخل المجتمع .
د . يعد النزوح و الهجرة الخارجية و الداخلية من الآثار الخطيرة التي سببتها الأزمات والحروب والسياسة للكثير من أبناء الليبيين، حيث تجاوز عدد الأسر الليبية التي هجرت عن بيوتها 140.000 أسرة منذ بداية الحرب في جنوب طرابلس، كما شهدت البلاد موجة نزوج كبيرة بسبب الحروب في شرق البلاد وجنوبها خلال السنوات السابقة، كما سجلت بعض تقارير المنظمات الدولية إعداد لا بأس بها من الليبيين الذين هاجروا خارج البلاد أو قدموا طلبات للهجرة .
هذا النزوح والهجرة القسرية غير منظمة خلف العديد من المشكلات الاجتماعية والنفسية التي يجب أن تكون محل دراسة واهتمام من الجهات المعنية بالأمر للتخفيف من المشكلات والاضطرابات المؤقتة وبعيدة المدى .
مثلما للحرب آثارها الاجتماعية المباشرة لها أيضا آثارها غير المباشرة، لأن في الحرب قسوة و ضعف للإدارة يشتد تدريجياً مع استمرارها، وكذلك استنزاف للقدرات، وضعف في الاقتصاد، وفيها شكوك وعدم ارتياح، وغيرها الكثير، وهو ما يترك آثاراً غير مباشرة على المجتمع الذي يخوض الحرب.
هذه الآثار يمكن إجمال أهمها فيما يلي :
أ. الفساد الإداري والاجتماعي والسياسي.
ب . بروز ظاهرة الجريمة المنظمة.
ت. انتشار دائرة التزوير.
ث. الابتعاد عن المواطنة أو الإخلال بمعاييرها.
ج. تفشي الإرهاب بأشكاله كافة.
ح. التحلل الأخلاقي
خ. التخلف العلمي ولتحصيلي .
د. التدني الصحي وانتشار الأمراض المزمنة، والتشوه الخلقي.
ذ. النكوص الثقافي واختفاء الأنشطة الخاصة بالثقافة والفنون.
ر. انتشار ثقافة الخوف والقلق.
ز. تصدع الطبقات الاجتماعية التقليدية، واختفاء الطبقة الوسطى الراعية للتقدم والاستقرار، وبروز تجار الحروب على حساب الطبقات الفقيرة التي شاركتْ في الحرب مما يؤدي إلى اتساع الفجوة بين أفراد المجتمع وبينهم من جهة وحكومتهم من جهة أخرى .
الخاتمة ..
. يمكن القول إن الآثار المادية للحروب التقليدية يمكن أن تنتهي حالما يتمكن المجتمع أو الدولة من الخروج منها وإتمام عملية إعادة الإعمار، لكن الآثار الاجتماعية للحروب لا نهاية قريبة لها، حتى إنها يمكن أن تمتد لأجيال لاحقة ولعشرات السنين وتبعاً لخطط الدولة والمجتمع في التعامل معها والسعي إلى علاجها علاجاً صحيحاً .
إن الآثار الاجتماعية المتعدَّدة على المجتمعات التي خاضت حروباً دفعت السياسيين في الدول المتحضرة إلى السعي باتجاه الحلول السلمية لمشاكلهم بدلاً من الحروب، وإيجاد روابط ثقافية واجتماعية وسياسية واقتصادية تقربهم من بعضهم بعضاً ليتفادوا الحروب وآثارها التدميرية مادياً واجتماعياً، كما هو الحال بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي التي تحملت بعض دوله وزر التقارب مادياً مع الدول الأخرى الأقل ثراءً في سبيل إنشاء مجتمع أوسع تبتعد فيه المجتمعات الفرعية من الحروب وآثارها الاجتماعية .
المصادر :
* تقرير بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لشهر يناير سنة2020-.
* وزارة رعاية أسر الشهداء والمفقودين – اللجنة الدولية لشؤون المفقودين .
* (الگاردينيا) مجلة ثقافية عامة.