ثقافة

  وقائع قرية مهجورة

 

مفتاح العماري

المطر الأصفر، لخوليو ياماثاريس: رواية استثناء، تُعزى اللذاذة فيها إلى مجازات شتى قدّتها لغة شعرية طامحة، فضلا عن ثراء المتخيل، كفضاء يوقظ كائنات المكان ويحركها؛ وان كانت العزلة  التي تتربّص بالكائنات والأشياء لتشكل خلفية شديدة القتامة في نسيج هذا المتن. ربما لأن العزلة هنا تقترح وجها آخر للطبيعة والإنسان، الذي وعلى الرغم من محاولة تشبثه بالحياة، إلا أنه سيتورط في محاكاة الصور نفسها التي تشي بفنائه، حيث ” لاشيء يبعث الرعب في الإنسان مثل إنسان آخر – خاصة إذا كان هذا الإنسان هو نفسه – “.

هذا ما يحدث داخل دوامة ذلك  العدم الناشئ عن فناء فيزيائي ليس للبشر وحسب؛ بل  للطبيعة أيضا، عندما تتهدم وجدانيا وتغدو خرابا مهجورا، لا نبض فيه سوى ما تثيره الأشباح من مخاوف وهذيانات وهلوسات تكرر نفسها. تلك هي معظم الصور والمشاهد التي يقترحها خوليو باماثاريس  للمكان  في المطر الأصفر. بلدة منبوذة، أو هي طاردة، لحظة اختفاء مقومات العيش والتضامن مع البيئة، ليجسد عبرها (فانتازيا شبحية) شديدة الغرابة. إلى الحد الذي تبدو فيه شراكة القراءة هي الأخرى من حيث تعاطفها مع النص مهددة بعدوى المكان؛ فما من شيء هنا غير تداعيات هائجة لهلوسات الموت. غير أن صمود القراءة يعزى أولا لقصر الرواية، ثم إلى  لذاذة الشعرية الكامنة في الأسماء والأشياء لتترجم الموجودات والظواهر كتعبير عن صرامة  الكائن الذي يتشبث بوطن من حطام، مجسدة في قرية تحتضر. وكأنه بعدم تخليه عن هذه المنكوبة التي هجرها جميع سكانها يحاول إيهام نفسه بإيقاظ الحياة، بينما هو في واقع الحال كان فقط: يطمح لتأجيل لحظة موته. لكن وعلى الرغم من أن الموت هو المهيمن في هذا السرد، إلا أن الحياة هنا تتكفل بها الكلمات وحدها، لكأن السرد حين يغزو مناطق العدم، وبهذه الضراوة الجامحة، إنما يعبّر- بطريقة ما- عن معجزته الخاصة في استحضار روح العالم. لأننا، ونحن نقرأ، سوف  تستدرجنا الصور، تلك التي يصفها أو يستعيدها كهل وحيد، من دون حتى أن نسأل : هل ما يحدث للقرية مرده أن يد الإنسان قد تخلت عن دورها، أم أن الطبيعة قد بلغت حدا من العنف والقساوة، لدرجة  يصعب مقاومتها .

تذكرنا هذه الرواية القصيرة على نحو ما، برواية: بيدرو بارامو، لأخوان رولفو، كذلك بتفاصيل تائهة من يوميات  ماكوندو، في: مائة عام من العزلة لماركيز. فقط يظل المأخذ الوحيد الذي تكتشفه في الأثناء أن القرية في (المطر الأصفر)، تظل وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ كما لو أنها تهذي. وهذا ما جعل من تكرار التفاصيل التي تتشابه، تضع الرواية في حالة سكون، لحظة أن تكرر الأشياء نفسها بشكل أفقي، داخل أنفاق مظلمة لا تشي بأية تحولات، حتى لموضوعة الموت نفسها، عبر تكريسها شبحيا من خلال ظهور أطياف الموتى؛ لتبدو في بعض صورها محض توليفات مجانية لا تسهم في إنماء نسيجها وتكثيفه، بقدر ما تتورط في اجترار مشهدياته. ومع ذلك يقتضي الإنصاف: بأن هذه  الرواية، سوف تحتفظ بتميزها واختلافها عبر خصائص جمالية كثيرة من بينها تلك الندرة من شعرية السرد. لأننا ونحن نقرأ نبدو كأننا نتبع حلما، لا وقائع قرية مهجورة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى