امتداد العشوائيات في ليبيا تحولت إلى أزمة حقيقية تنذر بالخطر في ظل غياب الدولة وتحرك المقاولين والتجار الذين قاموا بحيازة الأراضي وتوزيعها.
لا يزال الليبيون المقيمون في العاصمة طرابلس وبدرجة أقل في بقية المدن يكثفون من عمليات تشييد المنازل في مناطق عشوائية، في خطوة تكرس ظاهرة العشوائيات التي تثير المخاوف من صعوبة التغلب عليها في وقت لاحق.
ويُكابد القادمون إلى طرابلس لقضاء شؤونهم أو غيرها من أجل بلوغ مقصدهم، حيث يصعب ذلك إذا لم تتم الاستعانة بالخرائط الجوية أو عدم معرفة المنطقة المعنية ذلك أنهم يجدون أنفسهم وسط المناطق العشوائية التي تُحاصر العاصمة الليبية كحبل خانق.
وهذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، حيث بدأت منذ تسعينات القرن الماضي، عندما تم تخصيص أراضي الطوق الأخضر المحيطة بالمدينة لمتنفذين في الدولة قام أغلبهم لاحقاً بتقسيمها أو بيعها لمن يتولى التقسيم، في ظل شبه غياب لمؤسسات التخطيط والعمران، وشبه انعدام لمناطق معتمدة يجوز قانوناً شراء أراض سكنية داخلها، ونقص حاد في الشقق الجاهزة، وسبات لأجهزة مكافحة البناء العشوائي.
حالة الفوضى الأمنية التي أعقبت «ثورة فبراير» والتي كرسها السلاح المنفلت بيد الميليشيات التابعة لحكومة ”الوفاق”، واجهة الإسلاميين، والتي تسيطر على غرب ليبيا، قد فاقمت الظاهرة
ويبدو أن تأخر الدولة في مجال التخطيط الحضري دفع المقاولين والتجّار للتحرك وحيازة مكانها في توفير الأراضي السكنية والخدمية والمنازل الجاهزة والمحلات والورش، ولكن، بِحدِ أدنى من الخدمات، قد لا يتخطى إمداداً غير شرعي للكهرباء وطريق ضيّق.
ولم يقف المقاولون عند هذا الحد بل “سيطروا على مزارع وغابات مملوكة للدولة، وانتهكوا شواطئ، ومناطق أثرية”، بحسب تصريحات لرئيس مرصد التعديات على أملاك الدولة فوزي باني، وورقة بحثية مدعومة بصور جوية “قبل وبعد الانتهاكات”.
ومع تزايد الهجرة إلى طرابلس، اكتظت المدينة بالسكان الذين بلغ عددهم فيها أكثر من ثلث سكان البلاد. وتم تحميل المناطق الجديدة عشوائياً على طرق وشبكات كهرباء زراعية لا تقوى على هذه الأعداد. وازداد حفر الآبار غير المرخّصة، واختلطت بعض مياهها بالصرف الصحي، ووصل الأمر إلى حد البناء تحت أبراج الكهرباء عالية الجهد، دون تقدير للعواقب.
وفي الأعوام الأخيرة زادت قسوة الظروف التي عاشتها ليبيا من امتداد العشوائيات، وتحولت قضيتها إلى “أزمة حقيقية تنذر بالخطر إن لم يتم التحرك السريع”، حسب ما يقول مدير مخططات الجيل الثالث بمصلحة التخطيط العمراني عبدالحفيظ المودي.
وبحسب بحث حول الانتشار العشوائي الذي فاق مخططات المدن أعدّه المودي فإن المخططات المعتمدة في طرابلس مثلاً لا تتجاوز 15 في المئة من مساحة المدينة، وغير المعتمدة تشكل 16 في المئة، فيما تصل المناطق غير المخططة إلى 69 في المئة.
صلاح فطّح: العشوائيات تتحملها الدولة لأن العمران يتطلب استراتيجية
وعلى المستوى الوطني يشير البحث إلى أن “المخططات الحالية لا تستوعب أكثر من 3.912 مليون مواطن”، في دولة عدد سكانها يقارب الـ7 ملايين.
ويقول أحد سكان عشوائيات طرابلس “لم أجد مكاناً أشيّد فيه بيتي إلا خارج المخططات، لقد دُفِعت إلى ذلك، فثمن الأرض التي اشتريتها مع تكلفة البناء أرخص من شقة، وأكثر مساحة”.
وفي مفارقة غريبة فإن العشوائيات في ليبيا وطرابلس خصوصاً ليست منازل خشب وصفيح كباقي دول العالم الثالث، فأغلبها بيوت واسعة وفلل وقصور أيضاً، فحتى الأغنياء لا يجدون براحاً للبناء داخل المخططات، بل حتى مؤسسات الدولة يفاجأ المواطنون أحياناً بافتتاح مقرات جديدة لها داخل طرق حيوية مكتظة، لتزيدها اكتظاظاً، دون توفير أبسط الخدمات، كأماكن ركن السيارات، كما حدث عند افتتاح أربعة فروع جديدة لمصارف مملوكة للدولة في طريق قرجي “الشريان الرئيسي الغربي لطرابلس” ما يطرح تساؤلات عن الأطراف التي تتحمل مسؤولية هذه الفوضى.
ويحمّل وكيل وزارة الحكم المحلي عبدالباري شنبارو المواطنين والمقاولين المسؤولية الأولى عن وجود العشوائيات. ولا يسايره في ذلك مدير إدارة المحافظات والبلديات بوزارة الحكم المحلي صلاح فطّح الذي يرى أن “المسؤولية تبدأ من رأس الهرم، لأن التخطيط والتعمير مشاريع استراتيجية وطنية”.
ومهما كان الطرف المسؤول، يتفق الجميع على خطورة العشوائيات التي يصفها شنبارو بالكارثة، على البيئة والصحة العامة والاقتصاد والبنية التحتية والمظهر الحضاري للمدن. محذرا من عواقب امتدادها خلال السنين الأخيرة للمناطق المنخفضة ومسارات الأودية مثل “وادي الربيع” حيث تواجه السيول منازل المواطنين كل موسم أمطار، وتخلّف أضراراً جسيمة، مطالباً بالرجوع إلى البلديات والوزارات والجهات الرسمية قبل الشراء في مثل تلك المناطق.
ويقول “نحن ساعون لتنظيف هذه الأودية ومراقبة العشوائيات. وتم الاتفاق بين وزارتي الحكم المحلي، والإسكان والتعمير، بالإضافة إلى مصلحتي التخطيط العمراني، وأملاك الدولة على تشكيل لجان مختصة ستصدر عنها توصيات تعقبها قرارات بإعطاء مرونة كبيرة للبلديات في ما يخص التخطيط. وهذه سابقة كبيرة سنخطها، ولدينا الكفاءات القادرة على حل المشكلة، إن خلصت النوايا”.
ولا يتفق وزير الحكم المحلي الأسبق محمد الهاشمي مع هذا الطرح قائلا “عندما تنقسم الدولة إلى دولتين، وتغيب السلطة المركزية وتُفقد القوة والقدرة على الجبر والإكراه، فلن تفيد أي إجراءات أو قوانين، لأن الدولة لن تقدر على التنفيذ”.
ويضيف الهاشمي “قانون 59 الخاص بالإدارة المحلية كان قائما على فكرتين، المحافظات والبلديات، وللأسف تم إرجاء تقسيم المحافظات واعتماد البلديات صغيرة الحجم والقدرة، وهذا بمثابة رصاصة في قلب رجل مريض”.
الظاهرة ليست وليدة اللحظة، حيث بدأت منذ تسعينات القرن الماضي، عندما تم تخصيص أراضي الطوق الأخضر المحيطة بالمدينة لمتنفذين في الدولة قام أغلبهم لاحقاً بتقسيمها أو بيعها
ويقدِّر المسؤول الليبي السابق بداية تغوّل العشوائيات مع حلول الألفية، عند توقف آخر مخطط (مخطط الجيل الثالث) قائلا “لم يقم النظام السابق بأي دور لإيقاف المد العشوائي، ثم جاءت الثورة وما تبعها من عراقيل لم تساعد الدولة، والآن زادت الحرب من المشكلة بسبب أزمة النزوح وتهدم الكثير من البيوت والمؤسسات”.
وداخل أروقة وزارة الإسكان والتعمير (المُستحدثة)، يثير وكيل الوزارة عبدالله النكّاع مسألة الوضع الأمني المتأزم وانتشار السلاح منذ سنين، بشكل لا يساعد على كف امتداد النمو العشوائي، وفق قوله، بالإضافة إلى المركزية الإدارية التي يرى أنها ساهمت في تعميق الأزمة، لأن الكل يريد الإقامة في العاصمة حيث المؤسسات وفرص العمل أكثر، والإجراءات أسهل.