صندوق الرمل.. تاريخنا بنكهة أدبية
يونس الفنادي
التهمتُ بكل روح العشق والتشويق رواية (صندوق الرمل) للأستاذة (عائشة إبراهيم) التي جاءت في 175 صفحة، واستلهمت حكايتها من تاريخنا الوطني ضد الاحتلال الايطالي. الرواية أبانت عن جهد مضن في تتبع واطلاع تاريخي وزمني للحياة في إيطاليا لم تتوقف عند «دانتي» أو «المستقبلية» أو أسماء الشوارع والأزقة والمدن والأمكنة وأكلات الشمطابخ أو عناوين الصحف والفنانات الشهيرات، بل ذهبت بعيداً حتى فتحت خزانة الإرشيف الإيطالي وانتقت منه نصوص رسائل الجنود الايطاليين إلى أمهاتهم وزوجاتهم وعشيقاتهم، كما استمعت إلى أنغام الأناشيد الحماسية الصادحة بالدعم لخوض النزهة البحرية التي تحولت بفعل نضال المجاهدين إلى مقبرة لإيطاليا في «صندوق الرمل».
إن شخصية بطل الرواية الجندي الايطالي الشاب (ساندرو) تتجاذبها لحظات جلد الذات وإدانة المغامرة الفاشلة لايطاليا مع جنوحه لممارسة دوره الإجرامي البشع في تناقض تتفاعل فيه مشاعره الإنسانية بكل تصادم وحيرة وقلق نفسي كبير، وفي المقابل ظهرت «حليمة» رمزاً للأرض ولليبيا وللإنسان وللبراءة والضحية التي عصفت الحرب بأحلام زواجها من «بشير» وغيرت مجريات حياتها كلها,
ولقد ظل التنقل بين الأمكنة والأزمنة والشخصيات أثناء السرد هارمونياً بامتياز في هذه السردية الرائعة التي أكدت أن كتابة التاريخ بلغة أدبية ترتقي به وتوطنه في الباطن الفكري والعاطفي وقد استطاعت الأديبة عائشة إبراهيم أن تأسرنا بكل حميمية وشوق لمتابعة أحداث الرواية رغم ما فيها من مرارة ودم وقسوة واستعمار وخذلان. لقد برعت الكاتبة في استنطاق الزمن الماضوي في ايطاليا وليبيا، واستعانت بالكثير من الشواهد العمرانية والشخصيات والأحداث وحتى التواريخ الدقيقة لتقدم لنا عملاً يستحق الكثير من القراءات العميقة والاحتفاء به على الدوام لأنه صفحة من صفحات الإنسانية بكل تبايناتها على هذه الأرض الطيبة.
لم يكن حليب الفتاة الليبية البريئة «حليمة» الذي تبيعه مع شقيقها الأصغر على حمارها الهزيل مجرد سائل أبيض انسكب على ثرى الأرض الطاهرة لحظة هجوم مسلح غادر على بيت الأسرة الآمن، بل كان رابطاً لونياً بتشارك مع الدم الأحمر المهدور على الرمل الأصفر في الكثير من الدلالات، ولم تكن ضواحي «المنشية» و»الشط» و»الهاني» و»بومليانة» ذات حضور مجرد وجامد في النص الروائي، بل كانت تنبض بكل أحداثها وشخصياتها في حياة بسيطة حتى سقطت قذائف الغزو على صندوق الرمل .. ولم تكن الحواراث عبثية بقدر ما حملته من معلوماتية وزيادة في التعلق بالسرد.
شكراً للصديقة العزيزة/ عائشة إبراهيم على هديتها واهتمامها ومنحي وقتاً ممتعاً مع روايتها الجديرة بالقراءة والنقد والدراسة وهي بلا شك تضاف إلى رصيدها الروائي وللمشهد الإبداعي الليبي بوجه عام.