يونس الفنادي.. يتوسدُ تابوتَه
تعتبرُ «فبراير» محطةً من المحطات المهمة في مشوار مقالات الرأي الصحفي الأسبوعية التي كتبتها على صفحاتها، بعد تجارب سابقة في كُلٍّ من «أويا» و»الشط» و»المنارة»، ليس لأن أغلبها في فبراير اختصت فقط بمتابعة حراك التغيير السياسي في المشهد الليبي وتطوراته المتسارعة آنذاك، ولكن لأن توقيتها الزمني وظروفها كانت استثنائية بامتياز في جميع الجوانب. فقد التحقتُ بفريق الصحيفة اليومية المولودة بعد التغيير الربيعي، مباشرةً بعد أقل من أسبوعين على صدورها، وتحديداً منذ العدد رقم (13) حين نشرتُ مقالتي الأولى (طرابلس الغرب .. هل تعود؟) بتاريخ 25 سبتمبر 2011م وواصلت الكتابة بها حتى العدد رقم (333) الصادر بتاريخ 27 نوفمبر 2012م.
في تلك الفترة العصيبة، قبل أكثر من عقد زمني مضى، كان القلم يتوسد تابوته، وتذكرة الذهاب قد لا تصحبها عودة، والخروج من البيت ربما لا يعقبه رجوع، فالفوضى العارمة لم تقتصر على انتشار السلاح بأنواعه فحسب، بل طالت براح الكلمة، وحرية الأفكار المتضادة بلا أية مرجعية عقلانية منطقية معتدلة، وكل شيء كان منفتحاً لأبعد مدى، حد التطرف والتهور المعادي أحياناً، والذي لم يكن يخلو من الاحتكام إلى أساليب العنف والتهديد والخطف وحتى التغييب الأبدي والقتل لمجرد الاختلاف في الرأي أو التوجه السياسي أو لتصفية حسابات شخصية صرفة!!
أسهمتُ بكتابة زوايا أسبوعية في عدة مطبوعات ليبية قبل 2011م وبعدها، ولكني أعترف بأن (مقالات فبراير) كما أسميها، تعتبر تحدياً خطيراً، لأنها كتبت ونشرت في أصعب الظروف السياسية والأمنية التي مرت بالبلاد، وكذلك بي شخصياً كمتابع ومشارك، ولولا الإيمان بأن مصائر الأرواح بيد خالقها، وعشق الحرف يتجسد في قوة الإيمان بالتضحية من أجل قيمته العظمى والثقة في فاعليته، ودعم ومساندة الزملاء الصحفيين والأصدقاء والمتابعين والقراء الأكارم لما استطعتُ مواصلة ذاك المشوار الذي أحسبه الأطول في تاريخ كتابتي لزاوية أسبوعية بعد صحيفة «أويا».
لقد كانت (مقالات فبراير) حقول ألغام موقوتة، تنوع صداها وتباينت مستوياتُ التعاطي معها، على المستوى الشعبي والحكومي الرسمي، والتي بدأت إثر نشر مقالي (الكيب يختار الأصدقاء) بحضور جماعة لمقر الصحيفة تستنكر استمرارية السماح لي بنشر مقالتي بعد فبراير 2011م، فاستقبلهم رئيس التحرير آنذاك الأستاذ زكريا العنقودي وتعامل معهم بموضوعية نقاشه، وحسه الدبلوماسي الهاديء، وعشقه لحرية التعبير، ومحبته لما يخطه القلم ويستوطن الفكر، تلاه اتصالُ معالي رئيس الوزراء الراحل الدكتور عبدالرحيم الكيب رحمه الله توضيحاً لخلفياتِ مقالٍ نشرته، وهو أول اتصال يجريه رئيس ُالوزراء بكاتبٍ صحفي بعد 17 فبراير، وكذلك اتصالُ ودعوة السفارة الجزائرية لمقابلة معالي السفير لشرح بعض النقاط حول ما نشرته عن سياسات السفارة وموقف الجزائر تجاه الحالة الليبية آنذاك، وكذلك رسالة السفارة السعودية رداً على مقالي حول احتفالها بعيدها الوطني في طرابلس، وأيضاً طلب وزير المواصلات الأسبق الدكتور يوسف الوحيشي التواصل معي لتوضيح بعض الجوانب، وكلُّ هذه الشواهد تؤكد أن (مقالات فبراير) لم تكن تغرد خارج السرب، أو بعيداً عمّا يحدث في فضاء ذاك الراهن، أو لم تكن تلقى صدى وتفاعلاً في محيطها المكاني ومجالها السياسي والاجتماعي.
ولكن لابد من التأكيد على أن (مقالات فبراير) المعبرة عن قراءات سياسية للحالة الكائنة وقتها، ربما شابها بعض الغموض وعدم دقة التيقن من واقعيتها وفق مجرياتها المتتالية ونتائجها الحالية، ولكنها في كل الأحوال أكسبتني جيشاً من الأصدقاء والمتابعين، ومنحتني حدائق محبة بلا ضفاف، تعبق بالتقدير والاحترام، وعلّمتني الكثير من الدروس والعبر من أهمها أن الكتابة السياسية كما أشرتُ في كتابي (قلمي والسياسة) تظل صالحة لكُلِّ زمنٍ ووقتٍ، حين تُكتبُ بمدادِ حروفِ الوطن، وليس بإملاءاتِ نظامِ حُكمٍ أو مرامي نفعية شخصية، وسترسخ في عقول القراء مفاهيم تداعيات ومخاطر التعبير الجريء والكتابة الصحفية الملتزمة، وستعبدُ الطرق لأجيال تستكمل مشاوير الحياة كافةً وتحديات دروب مهنة المتاعب عبر كل الأزمنة والأجيال.
شكراً فبراير ..أسرةَ تحرير .. وصفحاتٍ متنوعة .. ستظلُ مقالاتُكِ مستوطنةً في القلب .. وشعاعَ فكرٍ يحركُ العقل.