شعر وسرد
سالمه او غزالته وسنيورته الان, بدت له ومنذ دخولها لبيت السنيورة «غزالة وحسناء» جديدة، تمثالا طرابلسيا جديدا، كانت وهي ترتدي ملابس السنيورة وتتعثر في كعبها العالي تعاني حقا الآم التحول التي عاناها ليلة مسخه، كان ايضا «بروب سنيور» ميت وكانت بملابس وحذاء سنيورة مطرودة من بيتها الليبي، كانت قد جذبته برائحة الوديان التي غادرها وكأنما كانت تناديه للعودة إلى تلك الوديان، كانت تفكه من أسر «السنيورة» التي حولته الى رجل كامل يسعى على قدمين، وكان يراها تتحول الى سنيورة كما رأها وهويتأمل « التمثال» غزالة مسخت مثله . كان وعبر سالمة وتحولاتها يرى ويشم كل تفاصيل الغزالة والحسناء ويشم روائح الوديان والبحر الطرابلسي .
في تلك الاثناء كان العقيد القذافي يخطب في زواره ويعلن الثورة الثقافية والنقاط الخمس، كان يعلن بداية التحول الشامل، بداية الثورة الثقافية، ويعطل كل قوانين العهد البائد « الملكي « ويمنع كل الكتب الصفراء ويأمر باعتقال كل المرضى « المثقفين» كما يعرفهم العالم ، فالقوانين كانت سدا ضد سيول الثورة، والمثقفون والحزبيون ليسوا الا مرضى بالجرب الفكري مما يتطلب عزلهم عن المجتمع، كي لايستمر المسخ والتشوه الحضاري .
كانت الميادين قد بدأت تغص من جديد مناصرة للاخ العقيد في معركته ضد الارث الايطالي والانجليزي والملكي من اجل التحرر من كل قيود الماضي البغيض «كما ظل يهتف راديو وتلفزيون الثورة الفتية»، كان بطلنا في تلك الاثناء، يجلس على اريكة « السنيورة» حيث قرأت له فصلا عن الجحيم، وحيث حذرته من الانمساخ والتحول وعذاباتهما، و كانت سالمة ودون ان تلتفت اليه تخلع مسرعة ملابس السنيورة وتلقي بها متناثرة عبر الصالة الواسعة، لتقف عارية تماما تلف حول نفسها كغزالة تفك عنها قيودا قاسية كانت تكبلها، او ربما كحورية بحر تتخبط على رمال طرابلس لتهاجمها كلاب طرابلس الجائعة .
اخرجت رداءها الليبي وارتدته مسرعة ثم اندفعت خارجة الى الميدان وهي تولول مزغردة وغابت عن بصره لوقت قصير ثم رآها وهي تملأ شاشة التلفزيون، كانت غزالة طرابلس في تلك اللحظات بالنسبة له، وبحث عن رائحة الوديان، رائحتها، في ارجاء البيت دون ان يجدها، فاحس بانها تبتعد كثيرا رغم انه يراها قريبة تملأ شاشة التلفزيون .
خرج باحثا عنها وسط جموع الميدان ولم يجدها فمضى الى التمثال حيث لاتزال الغزالة والحسناء متسمرتين وحيث لاتزال الحسناء تتكيء على كتف غزالتها رغم الزحام والضجيج، واحس لاول مرة بهشاشة الحسناء وضعفها، فهي تمسك بعنق الغزالة مرهقة وكانما تستجديها التفاتة نحوها منذ نصف قرن في تلك اللحظة بالتحديد .
احس بالصهد الليبي، بالليبيتشيو وهو يجلس متكئا على حوض الغزالة وقد توقفت نافورتها عن رش الجسدين المتسمرين بالماء على غير العادة منذ نصف قرن، وسمع لاول مرة أنات الحورية وهي تلتهب ويحرقها جفاف الليبيتشيو، ثم عصفت رياح ابريل، «اقسى الشهور» فعوى عاليا وعاد الى الميدان ورغم الزحام والضجيج سمع صهيل خيول نافورة ميدان الشهداء وراها تشبو حقا متحدية ومستعدة للقتال، «كانت خيول الفاتحين وكما ظلت دائما تتدفق عبر شارع عمرو بن العاص لتصل الى نافورة الخيول بميدان الشهداء وظلت السيول تتدفق عبر شارع الوادي « الاسم الشعبي لشارع عمرو بن العاص» لتغمر ميدان الشهداء و نافورة خيولة، و ظلت جموع الهاجين تتدفق من الصحراء يطاردها العطش باتجاه الميناء .
انتصب امام نافورة الغزالة والحسناء وطرق بقوة على فخذ الحسناء فوجده مجوفا فارغا، واحس بفراغ داخله، رجل اجوف، فعوى مهتاجا عله يملأ جوفه الفارغ .
« لا ادري انا كاتب هذه الاليجوريا» لماذا اقع طائعا في هذا الفصل تحت وطأة « المعري» الاوروبي « ت، س، اليوت» وارضه الخراب ؟.
كان القذافي والكلمات تتدفق من فمه يطلق عقال براري من الرمل والطين والغزلان والذئاب والضباع والنسور، يهشم صلصال الغزالة وسدود السيول واسوار لبدة الكبرى، يفتح الطريق لجيوش الجرمنت لتدخل المدن والدوائر الحكومية والمكتبات والمسارح، يغطي زحفها غبار «الليبيتشيو»، كان يقود معركة الاسترداد، متقدما «نحو طرابلس» .
وكان بطلنا وحيدا امام تمثال الغزالة والحسناء يلف على اربع مهتاجا اثر صراخ القذافي والجموع وتستبد به رغبة للعواء، هو لايعرف إن كان مبتهجا ام غاضبا، ولكن به رغبة للعواء عاليا وبشراسة، فعوى مرة ومرتين واحس براحة اثر ذلك، ولكن تلك الراحة تحولت الى احساس بالفراغ، لكانه كان مملؤا بالهواء, وتدفق من جوفه كل ماكان يملأه، فعب من الهواء المغبر ما استطاع، وسمعها تهمس له «مابك؟»، كان همسها يتحول شيئا فشيئا الى صفير ريح صحراوي جاف، كان به رنين فخذ الحسناء المجوف، والتفت الى رأس الحسناء حيث كان وجه «السنيورة» وتحسس زغب ذراعيها الذي راه متوردا في شوارع لبدة الكبرى يوما ما، كان يجف، وود لوكان بامكانه ان يبلله بلسانه فوجد لسانه جافا ويتدلى لاهثا ككلب اصيل .
«ابريل اقسى الشهور» وكان كل ذلك في ابريل عام 1973م وكانت ليبيا حقا تتحول، كان فرن الليبيتشيو يتقد وكانت سيارات الامن قد بدأت تتحرك في ارجاء البلاد، كان رؤوساء فرق القبض يعيدون قراءة قوائم المطلوبين ليحددوا عنوان كل واحد منهم، بعضهم يعرف المطلوبين وعناوينهم دونما حاجة لتلك القوائم، فغالبها قديم وموروث من قوائم امن المملكة، تقريبا نفس المطلوبين عام 1967م ربما اضيف لها بعض الاسماء الجديدة ولكنها تقريبا نفسها .
القوائم الجديدة والغريبة كانت قوائم مطلوبين غريبين، لم يعرفهم الامن الليبي من قبل وكل من فيها كان مطلوبا ليس للاعتقال وانما للحرق في محارق علنية وسط ساحات وميادين المدن، المطلوبون للحرق كانوا كتبا، نعم كتب من ورق وحبر، كتب ماركس وفرويد وداروين، غالبية ماانتج الاوروبيون من كتب، وايضا كتب الاحزاب الاسلامية والقومية والاشتراكية والشيوعية التي كتبها عرب ومسلمون . كان على الامن ان ينقض على المكتبات ليطهرها «كما يقول الراديو والتلفزيون» من الكتب الصفراء والفكر الرجعي العميل .
كانت «الثورة الثقافية» كما اسماها القذافي والتلفزيون تجتاح البلاد كلها فهاجمت الجماهير كما ظهر على التلفزيون بيوت بعض «المرضى» وهو وكما اشرت سابقا لقب جديد يخص « المثقفين» واخرجت الجماهير ماوجدته من كتب في تلك البيوت واحرقتها، بالطبع لم تطغى روائح الورق والحبر المحترقين في طرابلس تلك الايام على رائحة الغبار التي ظل «الليبيتشيو» ينفتها حارة وخانقة.
بطلنا وبعد ان عاد الى البيت اخرج كتاب السنيورة الذي ظلت تخرجه وتقرأ منه فصل الجحيم واقام له حفلة حرق كتلك التي شاهد الجماهير تقوم بها على التلفزيون، القاه على عشب الحديقة وغطاه بالاعشاب الجافة واشعل فيه النار ولكن ذلك لم ينجح ولم يحترق كتاب الجحيم، فتدخلت سالمة بعد ان ابعدته قليلا ومزقت الكتاب الى قطع ووضعت العشب الجاف تحته ثم غطته به وما ان اشعلت العشب تحته حتى سرت النار في الورق والحبر والاعشاب، في تلك اللحظات تذكر انه لم يشعل نارا في حياته من قبل، ظل يرى النار تشتعل ولم يحاول ان يشعلها طوال حياته البشرية الماضية .
كانت بعض نتف الورق تطير هاربة من المحرقة حاملة بعض الكلمات، وكانت سالمة تعيدها الى المحرقة بعد ان تطاردها وهي تطير، كانت تلتقط بعضها من الهواء وبعضها بعد ان يحط، ولم تتركها الا بعد ان تحول الكتاب الى هباء نثرته الريح في كل ارجاء الحديقة ثم تلاشى في غبار الليبيتشيو الحار .