سجن القضائية الملاصق لسجن الدعم المركزي، مبان أخرى حكومية حولت إلى سجون سرية، بيوت، شارع إسفلت، زيتون، مصنع مياه معدنية مهجور. أشباح تحوم. صراخ في الليل. تساءل شاعر» إن كان القمر يطل بين حين وآخر» لكن الناس لا تتحدث إلا عن شبح شاحنة ترى رائحة وغادية بين السجنين كل ليلة تحمل كومة جثث.
لم يكن هناك طير واحد ليقول أشياء من قبيل «بو تويت»
جزء من رواية ضحايا
في وقت مبكر من تلك الليلة، دخلت سيارتان، من نوع تويوتا كروزر، واحدة سوداء ومعتمة ومصفحة والأخرى بيضاء معتمة، سجن القضائية، كان القمر في طوره المسمى البدر الكامل وبدا كأنه يسلط ضوءه على تلك الرقعة من الأرض ليلفت الانتباه إلى العرض الوشيك لفرقة الموت وكانت السماء صافية أيما صفاء، نزل الحاج وشقيقه عبد العليم من السيارة السوداء ومن البيضاء نزل أربعة سفاحين آخرين أحدهم قطعت رجله اليسرى عند الركبة.
توجه الحاج إلى إدارة السجن، وذهب الآخرون يتزعمهم عبد العليم إلى قاطع الزنزانات، كانت كل خلية في جسمه تنبض بالحقد، وشغف القتل، كان يمثل، بخطوته البلهاء، الشر متبلدا، وكان يشعر بخطورته، وهي خطورة الحمق البادي على وجهه المضطرب، حتى أنه لا يعرف أي حركة ستصدر عنه، بمعنى أن حركاته تتصرف من تلقاء نفسها مستمدة من البله الكامن في خلاياه. توجهوا إلى الزنزانة رقم 2 تفرسوا في الوجوه وسحبوا، من بين خمسة سجناء، سجينا إلى الممر خارج الزنزانة.
التفوا حوله، فأخفض السجين بصره، هيأ نفسه، أولا، للتعنيف اللفظي، وأوضح لهم من خلال حركة جسده الثقيلة والمطاوعة، ذله. كانت تلك خطوة أولى للمقاومة، ليقي نفسه العنف الجسدي، صم أذنيه وترك لألسنتهم حرية اختيار أشد الألفاظ مهانة، تابعت عيناه النظر أسفل قدميه، رأى أحذيتهم، تخيل أن بإمكانه الصمود، أحس بكلماتهم تلوث روحه، سحب، بهدوء، نفسا عميقا، زفره ببطء، تهيأ، وحدث نفسه، أنه سيحتمل أي ضربة قاسية، سرعان ما داخله شك، لما طلب منه عبد العليم ـ ارفع رأسك يا جبان.
رفع رأسه، فتلقى أولى صفعة، من كف الأحمق، تركت على خده الأيمن علامات أربع أصابع، أخفض رأسه مرة أخرى، فتوالت اللكمات، والركلات، والرفس، كان السجين مجرد ولد يحلم في وقت سابق أن ينشئ، رفقة زميلته وحبيبته في كلية الاقتصاد، أسرة ويعيش حياة هادئة، وكانت تهمته أنه فبرايري. وكانت هذه أشنع تهمة في ذلك الوقت. وهي تعني أنك مخرب، ومهلوس. وطبعا خائن
كان السجين يبدو وسيما حتى بثيابه الوسخة ولحيته الخفيفة، سقطت خصلة من شعره الطويل أمام عينه، فشدها عبد العليم بكفه ـ دللوا البنية. قال وصدرت عن ضحكة تشبه النخير.
ـ انحنوها لو يبي. علق أحد السفاحين.
تلقى الضربات وحسب، وكان لديه أمل أن حبيبته ستنتظره، وعليه الآن أن يحتمل كل الألم برحابة صدر، وكان يعتقد أنها لن تستغرق وقت أطول، وسرعان ما سيملونه ويتركونه، ويعيدونه إلى الزنزانة، لكن المسألة طالت، ومعذبوه وجدوا لذة في تعذيبه، أحس بها لما علا ضحك فاجر، تهكم السفاحون عليه، بصقوا على الوجه الضعيف، كانت ساديتهم في أوجها.
سال الدم من منخريه، ترك بقعا صغيرة على بلاط الممر، في الأثناء خرج أحد السفلة وعاد يحمل طوب بناء.
كان الشاب لايزال راكعا، وصامدا. من خلفه هوى حامل الحجر، بالحجر على رأسه، صرخ
في الجوار سمع المساجين، من داخل زنزانتهم المظلمة، بوضوح، شتائم غاية في البذاءة طالت حتى الخالق جلّ وعلا، تخلل، العربدة، صراخ رفيقهم (الذي تلقى في هذه اللحظة ضربة أخرى على رأسه) وصل ألمه إلى قعر قلوبهم، قبل أن يموت بلحظات، ودع حبيبته، ودع نفسه، همد بعد أن سحقوا جمجمته بطوب البناء.
للحظة ساد هدوء مريب في الممر، ثم سمعوا وقع أقدام القتلة تبتعد شيئا فشيئا، بعدها حل سكون مميت.
في الظلام زحفت، من تحت رأس الضحية المهشمة، بقعة دم عبر الممر، سمح الفراغ، أسفل باب الزنزانة المقابلة، لها، بالمرور، لمست مرفق نزيل يحتضر، شعر زياد بالسائل الدافئ يلمس كعب قدمه، تحسسه بطرف سبابته ـ دم يا جماعة. قال هامسا وهز أجساد رفاقه، كانوا أربعة شبان.
«قتلوه» قال أحدهم وبدأ يبكي.
بعد وقت قصير، سمعوا مرة أخرى وقع أقدام في الممر، خمنوا أنها ذات الأقدام التي كانت تلهو منذ قليل، ومع اقتراب الصوت، تعلقت عيونهم، في الظلام، بباب زنزانتهم، خفقت قلوبهم لما سمعوا حركة المفتاح في القفل، أضيئت الغرفة بمصباح يدوي كان في يد أحد القتلة، وقف ثلاثتهم، ورأوا الوجه، الذي لا يريد أي أحد أن يراه، وجه عبدالعليم المرعب، سكن الخوف مفاصلهم، تسارعت نبضات قلوبهم بوتيرة واحدة وبمعدل مائة وتسعين نبضة في الدقيقة. لاحظ السفاح ومرافقوه الأربعة، الخوف مشعا في أعين النزلاء ـ أشم رائحة الخوف. قال المرافق الذي كان يستند على عكازين. كانت رجله اليمنى مقطوعة عند الركبة، يفتخر أنها إصابة في جبهة القتال. كاذب.
ضحك البقية. ركل عبد العليم، بقدمه، الشاب المحتضر ـ اوقف يا خاين.
ـ الراجل يحتضر. أجاب زياد، وكأن الجلاد سيستمع إليه!
ـ احني بس بنسرعوا وصوله إلى الجنة. قال المرافق الآخر الذي كان يحمل بين يديه قطعة الحجر الملوثة بدم رفيقهم المغدور وهوى بالحجر على رأس المحتضر، الذي كان لحظتها يشاهد أجمل منظر رأته عيناه، الجنة.
في وقت لاحق راج تسجيل صوتي لشاب يستجدي حياته من القتلة خلف جرافة في مكان ما، وكان المجرم يجيبه، بأنه سيقدم له خدمة جليلة، وسيوصله الليلة إلى الجنة»
رفع المرافق الحجر بكلتا يديه وهوى به مرة أخرى على الرأس، ومرة ثالثة ورابعة وخامسة، انسلت الروح مرعوبة لبارئها، تناثر الدم، انسحقت الرأس، كشفت ضربة قوية، عن كتلة هلامية رمادية اللون، تضررت قشرتها الخارجية، سحقها الرجل، بقدمه، فكشفت عن مخ الضحية.
فقد أحد النزلاء صوابه مطلقا أقوى صرخاته على الإطلاق، صرخة وصفها أحد السجانين خارج الزنزانة بأنها» صرخة شقت باب العرش»
هل فعلت ذلك حقا؟
ملك الموت سيعود إلى السماء بوفرة من الأرواح المكلومة.
ـ يا كلب. قال عبد العليم، وأقحم خطم مسدسه في فم الشاب المهستر، وأطلق رصاصته، تناثر الدم حتى لمس وجه أحد السفاحين،
لعق السفاح الدم على وجهه معطيا إيحاء بالشراسة والتوحش، سقطت جثة الشاب على جسد الضحية المهشمة للتو. مشكلان معا علامة الصليب.
خرج القتلة نشوانين يصمهم مرح الانتقام المشين، خفة العمل الوسخ الموسوم على وجوههم أزعج الهواء فاضطرب، إثر ذلك دخل شابان إفريقيان، كانا يحلمان بالشاطئ الأوروبي فعلقا في خدمة أقبح وأقذر سفاحي البلاد، سحب كل واحد منهم جثة من قدميها، رسمت الجثتان خطين متعرجين من الدم على بلاط الممر، رمى الإفريقيان الجثتين في صندوق شاحنة ميتسوبيشي. وعادا للزنزانة، وغسلا أرضية البلاط من الدم.
طمس الظلام الزنزانة، غرق النزيلان المتبقيان في صمت. انتشرت رائحة نتانة لم يعتقد أي منهما أنه اختبرها في حياته.
«هذا دم رفاقننا، ما تشمئزش» قال النزيل الآخر لزياد وسد أنفه بإبهامه وسبابته.
كانت تلك أطول ليلة في حياتهما، شكا أن يكون ثمة فجر سيأتي بعدها، ظنا أنها ستستمر إلى الأبد، تمنا وهما يحدقان في الظلام، لو أنهما لم يولدا.
توطن في الزنزانة خوف بقي أثره في رائحة الدم التي لا تزول، وفي اللغة المهينة المتسربة مع البقعة الحمراء، بقي على هيئة نتانة، دفعهما الخوف إلى ركن الغرفة، التصقا ببعضهما وتحاضنا كطفلين مذعورين.
تتبعا مسيرة حياتيهما حتى وصلا بخيالهما إلى اللحظة الغامرة بالفرح، عندما كان كل منهما مجرد فكرة حالمة في ذهني والديه، عندما لم يكونا شيئا سويا، تعجبا أن تتوج لحظة بهية كتلك بهذه النهاية المفجعة، بدا لهما الوجود كلي الوحشة. كانا غارقين كليا في حالة التأمل المريع لأوحش لحظة مرت في حياتيهما، كشفت لهما بؤس وشقاء حياة الإنسان.
في تلك الأثناء كان الحاج واقفا أمام مدخل السجن، وأعطى أذنه بتنفيذ الحكم، غطى السجانون، بخرق، وجوه أربعين نزيلا وقادوهم مقيدي اليدين، عبر الممرات، إلى ساحة السجن غير المبلطة، بانتظار تنفيذ الإعدام، وقف الضحايا في خمسة صفوف، منتظرين لحظتهم الأخيرة، مرت سحابة هائمة حجبت ضوء القمر لأقل من دقيقة، شع ضوء القمر مرة أخرى، بضياء أكثر هذه المرة، كأنه يتوسل نجدة من مكان ما، ذخرت حضيرة الإعدام مخازن بنادقها، اطلقوا النار في الهواء استعدادا لحفلة الموت، انتظر المحكومون قدرهم المحتوم، ولكن حتى في لحظة كهذه يشع أمل، فكر أحدهم بأشياء كثيرة بحيث أنه كان يتنقل بين الأشياء بسرعة وتوتر، ألعاب طفولة، وجبة اشتهاها، إساءاته، شخص محبب، انتقى كلمات سمعها، رددها كتعويذة،
