
تراث ..
امتازت مدينة طرابلس بالعديد من الانماط الغنائية من فن المالوف إلى الانشاد الديني، والصوفي، وتأتي الأغنية الطرابلسية من بين هذه الفنون القديمة لمدينة طرابلس
اشتهرت الأغنية الطرابلسية عبر مراحلها المختلفة على يد العديد من الأعلام الفنية لمدينة طرابلس منذ أواخر القرن التاسع عشر، ولعل اقدمهم الفنان محمد عبية، وعلي البوني، وغيرهما بالإضافة لبعض المطربين والفنانين من الطائفة اليهودية الذين كان لهم اسهامهم المباشر في اثراء هذه الأغنية.
للأغنية الطرابلسية خصوصية وهوية مستقلة كأي أغنية محلية أخرى لها بنيتها التكوينية الخاصة وأسلوبها اللحني، والايقاعي المميز وروح الهوية المعبرة، ولعل أهم هذه الركائز هي الميزان الشعري الذي اختصت به والمعروف بـ)البورجيلة( الذي يعد أساس الأغنية الطرابلسية القديمة، ومن )البورجيلة( ما قاله سيدي قنانة رحمه الله:
لأيام كيف الريح في التبريمة
شرقي وغربي ما يدومش ديمة
هذه من الاغاني الطرابلسية التي اشتهرت بصوت الشيخ العفريت من البلاد التونسية الشقيقة؛ فعند الغناء يغني المطرب من آخر كلمة في الشطر الاول فيقول المغني ) في التبريمة لأيام كيف الريح في التبريمة(، وهكذا مع كل الأبيات الأخرى للأغنية بالإضافة لثراء المفردة المحلية الموغلة في القدم العاكسة للبيئة المحلية الطرابلسية.
إذا هنا وضعنا قاعدة ثابتة تعد من أهم القواعد الخاصة لهذه الاغنية فليس هنالك مثل هذه الخاصية في اي بلد آخر بستثناء الرصيد الفني المشترك بين طرابلس كأقليم وتونس الشقيقة فليس هنالك اغنية سودانية او مصرية او عراقية بورجيلة . وموضوعنا اليوم لحن من الالحان الغنائية الطرابلسية الذي اشتهر من خلال العديد من الاصوات القديمة والحديثة ولعل اهمهم المطرب زكي مراد من خلال اغنية ) يا بنت يا بيضة جننتيني( بالاضافة للفنان صباح فخري، والسيدة فيروز وغيرهم.
فقد نسب البعض تلحينها خطأ للفنان داود حسني . وكان لي نقاش من صديق عزيز فنان من سوريا الشقيقة الأستاذ الفنان محمد علي بحري الذي ابلغني بأن اللحن من تلحين داود حسني، وقد استشهد بتسجيل الاسطوانة لـ)زكي مراد(، وكذلك لتدوين الأغنية موسيقيا مع الكلمات في كتاب )أغانٍ مصرية قديمة( صادر سنة 1958 جمع وتدوين بهيجة صدقي رشيد دون الاشارة للملحن .
وقد طلب مني صديقي أن ابرهن بأن الاغنية او اللحن طرابلسي وهذا ما جعلني اكتب هذه السطور وذلك لسببين:
أولاً ..لفتح باب الحوار وتبادل الآراء مع أكبر عدد من الأصدقاء.
ثانياً.. لتعميم الفائدة من خلال منشور خاص بالموضوع حقاقأ للحق
1. الأغنية تأتي كما اسلفنا في ميزان البورجيلة الذي يعد من الخصائص الأساسية للأغنية الطرابلسية ونستشهد هنا بقول الصادق الرزقي في كتابه الاغاني التونسية ص 256 في تعريفيه للأغنية الطرابلسية فيقول
«الغناء الطرابلسي الذي يغنى بداية من آخر كلمة في البيت ثم يعاد البيت بأجمعه»
2. إن اللحن يعد من الرصيد الغنائي الطرابلسي، ويغنى في عديد المناسبات المختلفة، ونجد النسخة التي بصوت المطرب زكي مراد انه يتبع نفس الاسلوب الغنائي للبورجيلة
كما أن الفنان زكي مراد سافر في رحلة فنية لتونس والجزائر وفرنسا وأخيراً الولايات المتحدة الامريكية وعاد لمصر سنة 1932 كما التقى بالشيخ العفريت بباريس وتم التعاون فنيا فيما بينهم.
وهنا اشارة قوية بأن زكي مراد قد اخذ بعض الاعمال الغنائية من الشيخ العفريت وغيره، وبالاخص من بعض الفنانين الطرابلسيين المهاجرين لتونس من القطر الطرابلسي مطلع القرن الماضي وبثهم للغناء الطرابلسي في تونس وأغلبهم من اليهود منهم «براميلو بردعة» عازف العود والقانون وأخوه «رحمين بردعة» عازف الكمنجة، «موني ميمون» الجبالي عازف عود وقد تدرّبت على يده عدة مطربات مثل حبيبة مسيكة وفضيلة ختمي وأخوه ديدو الجبالي عازف قانون، وهو والد موريس ميمون.
3. تسجيل زكي مراد يحتوي على العديد من الابيات البورجيلة الطرابلسية مثلا يغني ويقول يا وقفتي عالباب ويا تعذيبي ويا مصعب الفرقة عليك يا حبيبي مع تغيير في الشطرة الثانية فالرواية الطرابلسية تقول يا وقفتي عالباب ويا تعذيبي ويا وحش قلبي من فراق حبيبي
4. يلاحظ من تسجيل «زكي مراد» أنه أخذ الأغنية وسجلها في باريس، أو تونس فإنه يتغنى بتونس وأهلها؛ فتسمعه يقول يا تونسية يا مسوسحة القبطان مع البحرية
وجننتيني يا بنت يا تونسية.
ويقول :
لوكان معاي المال لسكن تونس
لركب على الحمراء وخلص يونس
وكذلك بيت البورجيلة المشهور الذي يقول عنه الدكتور صالح المهدي رحمه الله بأنه قيل إبان حرب الاحتلال الإيطالي في ليبيا :
يا سايقين البل ياجمالة
تونس بعيدة والعرب قتالة
5. جاء في كتاب اغان مصرية قديمة صادر سنة 1958 جمع وتدوين بهيجة صدقي رشيد.
الذي استشهد به صديقي الفنان ان ابيات الاغنية قد طبعت مرتين لعدم درايتهم بميزان البورجيلة وطريقة كتابته فهم نقلوا ما سمعوه من التسجيل دون تحقق وتدقيق
ومن هنا اتقدم لصديقي العزيز بالشكر الجزيل فقد قدم بنفسه الدليل على ان الاغنية طرابلسية او ان الكلمات التي وضعت للأغنية قد وضعت على نفس الاسلوب
6. يعتبر الشاهد السمعي للأغاني والاعمال الفنية خير دليل فهوا دليل قوي يعبر عن نفسه بنفسه من خلال روح اللحن المعبر عن الهوية
7. واخيرا والاهم ما جاء في كتاب الاغاني العصرية للفنان كامل الخلعي الذي اشار بكل صراحة ان اللحن تونسي اي تونسي المصدر وانه وافد من البلاد التونسية وقد اشار ايضأ بأنه نظمت على قدها بعض الكلمات الاخرى وفي تقديري بهذا يكون النقاش محسوم بشهادة الفنان كامل الخلعي السؤال المطروح الان طالما الاغنية مصرية والمغني مصري والملحن مصري
الكلمات الطرابلسية ماذا تفعل في الأغنية التي بصوت المطرب زكي مراد وغيره من المطربين ؟
بهذه النقاط المهمة في تقديري هي خير دليل على أن الأغنية من التراث الطرابلسي الخالص
وفي الختام تقبلوا تحياتي واحترامي ولنتعاون معا في خدمة التراث والتعريف به و بقيمته الفنية
والحضارية ونسهم مساهمة مباشرة في صونه للأجيال القادمة .
أحمد دعوب
باحث في الموسيقى والتراث