ثقافة

في فلسفة النقد

يوسف الغزال

يمكن‭ ‬أن‭ ‬نعرض‭ ‬في‭ ‬عُجالة‭ ‬مفهوم‭ ‬ممارسة‭ ‬النقد‭ ‬الفكري،‭ ‬أو‭ ‬الأدبي،‭ ‬والفني‭ ‬من‭ ‬جانبه‭ ‬الثقافي،‭ ‬وكيف‭ ‬ارتبط‭ ‬في‭ ‬عقولنا‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬ندري‭ ‬بمدلول‭ ‬كلمة‭ )‬نقد‭( ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬السائدة،‭ ‬وشاع‭ ‬بيننا‭ ‬بأن‭ ‬النقد‭ ‬مجرد‭ ‬اكتشاف‭ ‬للأخطاء‭ ‬والعيوب،‭ ‬وغاب‭ ‬عن‭ ‬عقولنا‭ ‬بأن‭ ‬من‭ ‬واجبات‭ ‬النقد‭ ‬هو‭ ‬تقوية‭ ‬إثراء‭ ‬الموضوع‭.‬

ظاهرة‭ ‬النقد‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬البشري‭ ‬ربما‭ ‬هي‭ ‬جزءٌ‭ ‬من‭ ‬سيكولوجية‭ ‬الإنسان‭ ‬منذ‭ ‬بدايات‭ ‬تكوّْن‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأولى‭ ‬وحتى‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتعلم‭ ‬القراءة،‭ ‬والكتابة‭ ‬وربما‭ ‬كان‭ ‬النَّاس‭ ‬يمارسون‭ ‬النقد‭ ‬عبر‭ ‬المشافهة‭ ‬في‭ ‬تصحيح‭ ‬أفكار‭ ‬أو‭ ‬معتقدات‭ ‬بعضهم‭ ‬بعض،‭ ‬وكان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يوجه‭ ‬النقد‭ ‬بصفة‭ ‬شخصية‭ ‬من‭ ‬ذات‭ ‬المتلقي‭ ‬لذات‭ ‬الشخص‭ ‬المنقود‭ ‬وليس‭ ‬للموضوع،‭ ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬ظهرت‭ ‬ثنائية‭ ‬‮«‬الذاتية‮»‬‭ ‬و«الموضوعية‮»‬‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭.‬

هكذا‭ ‬بدأتْ‭ ‬عملية‭ ‬النقد‭ ‬مثل‭ ‬معظم‭ ‬البدايات‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المجالات،‭ ‬فهي‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬هكذا‭ ‬عفوية‭ ‬ساذجة‭ ‬ثم‭ ‬يتم‭ ‬تصحيحها‭ ‬وتنقيحها‭ ‬فيما‭ ‬بعد‭ ‬عبر‭ ‬عملية‭ ‬النقد‭.‬

شاع‭ ‬النقد‭ ‬بالمعنى‭ ‬التقليدي‭ ‬عبر‭ ‬لغة‭ ‬الوعظ،‭ ‬حيث‭ ‬لعب‭ ‬الناقد‭ ‬دور‭ ‬الواعظ،‭ ‬وسيطرة‭ ‬النزعة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬في‭ ‬الدينية،‭ ‬وأصبح‭ ‬مقياس‭ ‬كمال‭ ‬النص‭ ‬القوة‭ ‬البلاغية‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الأسلوب‭ ‬والقوة‭ ‬الأخلاقية‭ ‬في‭ ‬التوجيه‭ ‬والترشيد‭.‬

النقد‭ ‬بالمعنى‭ ‬العام‭ ‬هو‭ ‬أساسٌ‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬عمليات‭ ‬الفكر،‭ ‬وفلا‭ ‬فكر‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تعقبه‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬تقييم‭ ‬النتائج‭ ‬وتقويم‭ ‬المسارت،‭ ‬النقد‭ ‬يعد‭ ‬أهم‭ ‬خطوات‭ ‬المنهجة‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬وضعها‭ ‬فيلسوف‭ ‬الشك‭ ‬المنهجي‭ ‬في‭ ‬كتابه‭)‬مقالة‭ ‬في‭ ‬المنهج‭(.‬

بعد‭ ‬إنجاز‭ ‬تقدم‭ ‬في‭ ‬تداول‭ ‬الأفكار‭ ‬عبر‭ ‬المشافهة،‭ ‬ثم‭ ‬الكتابة‭ ‬وظهرت‭ ‬مصطلحات،‭ ‬وتكوّْنت‭ ‬آليات‭ ‬تهتم‭ ‬ببناء‭ ‬الفكرة‭ ‬وكيف‭ ‬نستنتج‭ ‬الفكرة‭ ‬من‭ ‬الفكرة،‭ ‬وكيف‭ ‬نستخلص‭ ‬الأحكامَ،‮ ‬‭ ‬والنتائج‭ ‬من‭ ‬المقدمات‭.‬

مصطلح‭ ‬النقد‭ ‬مثل‭ ‬أي‭ ‬مولود‭ ‬جديد‭ ‬مرّْ‭ ‬بعدة‭ ‬مراحل‭ ‬من‭ ‬التطور‭ ‬ويتخذ‭ ‬أبعادًا‭ ‬جديدة،‭ ‬ويتجه‭ ‬لأكثر‭ ‬شمولية‭ ‬في‭ ‬الكم‭ ‬وأكثر‭ ‬موضوعية‭ ‬في‭ ‬الكيف،‭ ‬وصار‭ ‬لايبرز‭ ‬العيوب‭ ‬الاخطأ‭ ‬فقط‭ ‬بل‭ ‬صار‭ ‬يبرز‭ ‬النقاط‭ ‬القوة‭ ‬ومحاسن‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬النقود‭.‬

النقد‭ ‬بالمعني‭ ‬الفلسفي‭ ‬التقليدي‮ ‬‭ ‬يشير‭ ‬لنزعة‭ ‬توفيقية‭ ‬نادى‭ ‬بها‭ ‬الفيلسوف‭ )‬كانط‭( ‬للتوفيق‭ ‬بين‭ ‬مصادر‭ ‬المعرفة‭ ‬عند‭ ‬الفلسفة‭ ‬التجربية‮ ‬‭ ‬والفلسفة‭ ‬العقلية‭. ‬وأسس‭ ‬قاسم‭ ‬مشترك‭ ‬بين‭ ‬العقل‭ ‬العملي‭ ‬والعقل‭ ‬المحض‭ ‬،‭ ‬ولذا‭ ‬المعرفة‭ ‬عند‭ ‬كانط‭ ‬ليست‭ ‬عقلية‭ ‬محضة‭ ‬ولاتجريبية‭ ‬صرفة‭.‬

أما‭ ‬النقد‭ ‬بالمعنى‭ ‬الفكري‭ ‬يظهر‭ ‬عندي‭ ‬وكأنه‭ ‬يتجاوز‭ ‬عمليتي‭ ‬التقييم‭ ‬والتقويم‭ ‬للموضوع‭ ‬المنقود‭ ‬بل‭ ‬يهدف‭ ‬تجديد‭ ‬الفكر‭ ‬وحذف‭ ‬كل‭ ‬الافكار‭ ‬الميتة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬ذات‭ ‬قيمة‭ ‬بحكم‭ ‬الزمن‭ ‬،‭ ‬كل‭ ‬الافكار‭ ‬لها‭ ‬مدة‭ ‬صلاحية‭ ‬ثم‭ ‬تفقد‭ ‬صلاحيتها‭ ‬بعد‭ ‬مضي‭ ‬مدتها‭ ‬،‭ ‬آلية‭ ‬تطور‭ ‬الفكر‭ ‬هي‮ ‬‭ ‬تساقط‭ ‬كل‭ ‬الافكار‭ ‬القديمة‭ ‬مثل‭ ‬تساقط‭ ‬الاوراق‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬الشجرة‭ ‬النفضية‭ ‬لتحل‭ ‬محلها‭ ‬اوراق،‭ ‬أو‭ )‬أفكار‭ ‬جديدة‭(.‬

ولهذا‭ ‬يمكن‭ ‬تقريب‭ ‬هيئة‭ ‬الناقد‭ ‬بأنه‭ ‬يشبه‭ ‬الجنايني‭ ‬الذي‭ ‬يقلم‭ ‬الاغصان‭ ‬الزائدة‭ ‬والميتة‭ ‬،‭ ‬هكذا‭ ‬يبدو‭ ‬الناقد‭ ‬من‭ ‬زاوية‭ ‬نظر‭ ‬فكرية‭ ‬بأنه‭ ‬ملقم‭ ‬الافكار‭ ‬الزائدة‭ ‬عن‭ ‬الحاجة‭ ‬أو‭ ‬الافكار‭ ‬الميتة‭ ‬أوالمشوه‭ ‬وبذا‭ ‬يكون‮ ‬‭ ‬النقد‭ ‬هو‭ ‬حالة‭ ‬مستمرة‭ ‬لتجديد‭ ‬أليات‭ ‬الفكر‭ ‬واساليب‭ ‬الادب‭ ‬ومدارس‭ ‬الفن‭ ‬عبر‭ ‬ممارسة‭ ‬النقد‭.‬

والقاعدة‭ ‬تقول‭: ‬الثابت‭ ‬الوحيد‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬هو‭ ‬التغير‭ ‬الدائم‭ ‬والمستمر‭ ‬قانون‭ ‬أساسي‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬تفاصيل‭ ‬حياة‭ ‬والتوقف‭ ‬يعني‭ ‬الموت‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى