رواية )الشاطئ الرابع(، للروائية الإنجليزية فرجينيا بايلي، ترجمة فرج الترهوني، تحوي نسختها المترجمة لدار الفرجاني عدد 423 صفحة. إذا وصلت لمنتصفها سيمر نصفها االآخر بسرعة أكبر، وقد تنتهي منها في 3 او 4 جلسات.
بين خطّين متوازيين، ننتقل في المساحة الواقعة بين أواخر عشرينيات، مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، ومطلع ثمانينياته. بين طرابلس وروما بشكل رئيسي وفعّال، وبسبب ذلك تتنوّع وتتشكّل الروائح والنكهات في هذا النّصّ، بين زهر الحناء الليبية ومرارة الخروع الإيطاليّ، بين العصيدة بالرب والحرايمي وزيت الزيتون والقرفة والشوكولاتة! وللقارئ رحلة هنا تمزج بين الأهواء والثقافتين الليبية والإيطالية بضربات ريشة ناعمة أجادتها المؤلفة رغم انها إنكليزية!
ليليانا أم سلوى؟
تزور لِلي )ليليانا( شقيقها ستيفانو المتزوج حديثًا من فريدة الليبية، في مهمّة تتطلب منها تعليم فريدة الحياة الأوروبية والتخلّي عن الفراشيّة. وليليانا فتاة في الثامنة عشر حينئذ، تشعر وترى أن العالم يدور حولها، ويجب أن يكون كذلك، على الأقل عالم ستيفانو، أخيها الوحيد والعزيز، عائل البيت مع إعاقة أبيها، والعنيد الذي يرمي به عناده وتصلب آرائه أمام الفاشية في صندوق الرمل الليبي ويُغرقه فيه.
يعمل ستيفانو في حلبات السباقات بطرابلس، وتأخذ السيارات وميكانيكيتها جلّ تفكيره، حتى يقابل فريدة البرقاوية في واقعة مفاجئة وغريبة تدفعه للزواج منها، هو الذي لم يشغل تفكيره قبلًا إلا العودة لزيارة أسرته، وإن كان شديد الخلاف مع والده.
لا يفكّر إلا في شقيقته الصغرى مَعينًا له على تعليم فريدة، ولكنّ ليليانا تعاني من جموح عظيم ورغبة عارمة في الاستكشاف وسبر أغوار حياة جديدة لطالما تطلّعت إليها بشغف، ليليانا تحمل ضمنيًّا أفكارًا مناقضة لأفكار أخيهاـ تأتي إلى طرابلس بدماغ مغسولة لا ترى في فريدة إلا مخلوق متوحّش غامض، شأنها شان السكان الأصليين للشاطئ الإيطالي الرابع، أو الضفة المقابلة من ماري نوستروم كما يسمونه الطليان، أي “بحرنا”… تفكّر ليليانا في الكيفية التي ستعلّم بها فريدة دون أن يؤثر هذا على شغفها تجاه الكولونيل الفاشيّ أوغو مونتيللو، ودون ان تشعر تلك الغريبة بأثر أوغو على لِلي… فمن منهما ستُعلّم الأخرى حقًّا ومن منهما ستتأثر بالأخرى وتؤثر فيها؟
تبدأ الرواية أول 50 صفحة بمشاهد من حياة ليليانا خلال طفولتها الإيطالية، ثمّ وقد شارفت السبعين، وودّعت للتو زوجها الإنكليزي في لندن. هبّ عليها الماضي من خلال خبر في صحيفة إيطالية بمحاولة اغتيال أحد المعارضين الليبيين الهارب إلى روما في فصل حمل عنوان “كلاب ضالّة”… ولليبيين دون سواهم تشكل هذه الكلمات وقعًا قويًّا ربما لا ينتبه له أي قرّاء سواهم.
وبدءًا من الصفحة الـ50 يبدأ منحنى السرد يعلو بانسيابية، ويبدأ الركض بين السطور وتتناسل الأسئلة والإجابات أكثر… فأي علاقة ستربط مهاجرة إيطالية بمعارض ليبي كي تقرر في لحظات توضيب حقائبها والانطلاق الفوري نحو روما؟
ستبدو ليبيا في البداية كصورة خلفية باهتة الألوان، أو كخلفية موسيقيّة لحياة الشخصيات الإيطالية، ولكنها لا تلبث أن تتحوّل إلى روح غامضة، تتحكم في مصائر الشخصيات وتحرّكهم على هواها.
أسلوب الرواية يميل إلى الشاعرية المعجونة بالواقعية، مكتوبة بأسلوب عذب نجح المترجم في نقله بنقاء تامّ.
ما أعجبني في النصّ:
ما ذكرته من دمج ثقافي وتنوع يكاد القارئ يلمسه ويتذوقه ويشمّه
مهارة بالغة في نقل تفاصيل الثياب والأماكن بألوانها ونسيجها وملمسها، حتى خُيّل إليّ أني أتابع فِلمًا لا أقرأ رواية )بعض المشاهد عالقة في رأسي وكأنني بالفعل رأيتها(.
قصر الفصول على كثرتها، وتميّز عديد من عناوينها وارتباطه الشديد بالمكان والبيئة.
التذكارات التي ابتدأ بها كلّ فصل، وكأن حكاية ليليانا وفريدة وستيفانو نُقلتْ إلينا عبر صندوق الذكريات الخاص بليليانا: بطاقات بريدية، صور تذكارية، خصلات شعر، ورق شوكولاتة، أوراق وزهرات مجففة، مواد إعلانية وتذاكر سفر… إلخ
المفاجآت التي حبلت بها الرواية، إذ لا تلبث ان تكتشف سرًّا حتى تأخذك لغيره، لمستوى جديد، مستوى أعلى من الدهشة والإثارة.
أما ما لم يعجبني ببساطة ما رأيت فيه بعض المبالغات، في أسلوب حزن ليليانا، وشهوانية أوغو مونتيللو، ثمّة بعض الابتذال السينمائي الذي لم أستسِغه فيهما، وقد أكون مخطئة وليس ثمة أي مبالغة في هاتين الشخصيتين وفق السياق الزمني لهما… كذلك طريقة زواج ستيفانو من فريدة، الواقعة التي دفعتهما للزواج، كانت غريبة عليّ ولا أدري إن كان في تاريخ برقة المتشابك ما يدعم هذه الواقعة، لربّما غاب عني شيء ما، ولكن، لا يسعني هنا إلا تجاهل التركيز على الواقعية التاريخية لأن النص الذي بين يديّ رواية متخيلة في نهاية المطاف.
لِمَ تهمّ هذه الرواية القارئ الليبي؟
إن استثنينا جمالية النص وقوة الحبكة وسلاسة الأسلوب، وهي دوافع قويّة لقراءتها، وبحثنا عن خصوصية ما، أنا أظنّ أنك كقارئ ليبي ستستمتع بها بشكل مضاعف؛ لأنها ببساطة تحكي لك بقية الحكاية، عما كان يجري فوق موطئ قدمك حين كان جدّك يعاني الفقر والحرمان أو النفي.. هذه الرواية تقدم لك تاريخ أرضك في عين الآخر، وتأخذك في رحلة مجانية عبر الزمن لتتوه في دهاليز وشوارع ومعالم طرابلس الإيطالية، تحديدًا الأماكن التي حُرم أجدادك من وطئها إلا خدمًا وعُمّالا… وتريك مشاهد القتل والمجازر من فوق، من كابينة الطيار الإيطالي، لا من تحت، أي لا من حيث اعتدت ان تراها في فلم عمر المختار مثلا.
الخاتمة: مُرضية، تفتح المجال للقارئ وتمنحه الحرية كي يتصوّر عالمًا فسيحًا آخر وقصصًا أخرى بحاجة لمن يرويها حتى بعد أن أشبع فضوله ووجد الإجابات عن أسئلته الكثيرة.
كلّ الشكر لدار الفرجاني على قرارها الموفق في ترجمة هذا العمل متمثلة في شخص الأستاذ غسّان الفرجاني، وللمترجم فرج الترهوني على إجادته وأمانته في ترجمة هذا النص الرائع.