كثيراً ما تغزوني خواطر دون إنذار . فالذاكرة عندي انتقائية و قانونها مستبد .
بينما كنت أمشي في أرجاء الغابة المجاورة خطر لي بيت شعر قديم مشهور كان متداولا في حقبة القرن المنصرم :
جرًي ننشد فيك عليهم .. لا تنسيهم .. جيّابت لافخار اطريهم
سألت نفسي : من جيابت لافخار الذين يقصدهم الشاعر ؟
روًاد النهضة الصناعية ؟! أم قادة الفتوحات .؟! و أصحاب النظريات العلمية و الكشوفات الجغرافية و العالم الجديد ؟!
ماذا صنع هؤلاء حتى يستحقوا كل ذلك الثناء و المجد و الفخر .. ؟!
من عيوب بعض الشعر و كذب بعض الشعراء أنهم غير صادقين فيما قالوا وبذلك مسخوا تصورات المتلقي و أفسدوا عقول المستمعين بمبالغاتهم .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن عباس رضي الله عنه :
أنشد لي لأشعر الشعراء .
فقال ابن عباس : من هو ؟
قال عمر : ابن أبي سلمى .
قال ابن عباس : و بمَ ؟
قال عمر : كان لا يعاظل في المنطق و لا يتبع حوشي الكلام و لا يمدح الرجل إلا بما فيه .
و هنا نقف عند :
لا يمدح الرجل إلا بما فيه .
من الذي اقتفى أثر ابن أبي سلمى في المدح .
هذا ابن هاني الأندلسي يمدح الخليفة المعز :
ما شئت لا ما شاءت الأقدار … فاحكم فأنت الواحد القهار .
و هذا نزار قال غزلا في تلميذته :
إني أحبك من خلال كآبتي
وجهاً كوجه الله ليس يطال
- أستغفر الله العظيم – أي غلوٍّ بعد هؤلاء و أي جرأة على تشبيه المخلوق بالخالق.
مات الحسن بن هانئ و مات المعز و ظلّ شعره وصمة في جبين التأريخ
و مات نزار و شاخت تلميذته و رسم الدهر دروبه في جهها الممدوح زورا و بهتانا قال المتنبي :
لو فكر العاشق في منتهى .. حسن الذي يسبيه لم يسبه
و قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
و إن أصدق بيت أنت قائله … بيت يقال إذا أنشدته صدقا .