في مناطق مختلفة في البلاد واستغلال أراضٍ لإنشاء مجموعات من الوحدات السكنية أحدث تغييرًا كبيرًا في شكل المدن وتخطيطها، وشوه الكثير من الأصل العمراني للمدن في مختلف البلاد
وقد لجأ كثيرون ولأسباب مختلفة لاستغلال مساحات في غياب كامل للدولة، واستغلال حالة البلاد الأمنية والسياسية ومتابعه القانون
وهذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، حيث بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي، عندما تم تخصيص أراضي الطوق الأخضر المحيطة بالمدينة لمتنفذين في الدولة قام أغلبهم لاحقًاً بتقسيمها، أو بيعها لمن يتولى التقسيم، في ظل شبه غياب لمؤسسات التخطيط والعمران، وشبه انعدام لمناطق معتمدة يجوز قانونًا شراء أراضٍ سكنية داخلها، ونقص حاد في الشقق الجاهزة، وسبات لأجهزة مكافحة البناء العشوائي.
مقاولون وتجار
ولم يقف المقاولون عند هذا الحد بل، سيطروا على مزارع وغابات مملوكة للدولة، وانتهكوا شواطئ، ومناطق أثرية، بحسب تصريحات لرئيس مرصد التعديات على أملاك الدولة «فوزي بانياس» في ورقة بحثية مدعومة بصور جوية «قبل وبعد الانتهاكات».
ومع تزايد الهجرة إلى طرابلس، اكتظتْ المدينة بالسكان الذين بلغ عددهم فيها أكثر من ثلث سكان البلاد. وتم تحميل المناطق الجديدة عشوائياً على طرق وشبكات كهرباء زراعية لا تقوى على هذه الأعداد، وازداد حفر الآبار غير المرخّصة، واختلطت بعض مياهها بالصرف الصحي، ووصل الأمر إلى حد البناء تحت أبراج الكهرباء عالية الجهد، دون تقدير للعواقب.
أرقام
حسب الدراسات فإن المساحات المعتمدة في طرابلس مثلاً لا تتجاوز 15 ٪ من مساحة المدينة، وغير المعتمدة تشكل 16 ٪، فيما تصل المناطق غير المخططة إلى 69 ٪، وعلى المستوى الوطني أن «المخططات الحالية لا تستوعب أكثر من 3.912 مليون مواطن»، في دولة عدد سكانها يقارب الـ7 ملايين.
وإضافتْ الدكتوره رحاب الكوافي في دراسة لها عن العشوائيات وآثارها الصحية والبيئية والاقتصادية
إن المشكلة المتعلقة بالسكن هي هم يشغل معظم الدول النامية، حيث يمثل سكن العشوائيات بها أكثر من 43 % من السكان بتلك الدول، وترتفع النسبة حسب تقرير منظمة الصحة العالمية كلما انخفض مستوى الدخل لتلك الدول إذ يصل لأكثر من 70 % من عدد السكان بالدول الفقيرة، والتوقعات تزداد.
أظهرت نتائج الدراسة أن تعريف العشوائيات في ليبيا يختلف عن ذلك السائد في أدبيات هذا الموضوع، ففي ليبيا العشوائيات ليست فقد تلك الأماكن غير القانونية والمفتقرة للبيئة الصحية وإنما قد تكون قانونية وفي بيئة صحية؛ كذلك في ليبيا العشوائيات ليست قاصرة على أطراف المدينة وإنما بداخلها أيضاً مثل مشروع 7000 وحدة سكنية داخل مخطط مدينة بنغازي؛ وارجعت الأسباب إلى التخطيط المُمنهج لكل ما يترتب عليه ظهور العشوائيات مثل عدم تطوير القطاع الاسكاني وهذا واضح من خلال مراحل التخطيط التي مرت بها ليبيا.
■ عدم الاهتمام بالمناطق الريفية شجع معظم السكان على الهجرة نحو المدن.
■ انخفاض حجم القروض السكنية التي تمنحها البنوك للمواطنين.
■ ثقافة امتلاك المنزل لدى المجتمع الليبي.
■ عدم وجود التشريعات والقوانين خاصة المتعلقة بالملكية العقارية وتقسيم الأراضي وتسجيلها.
الفوضى الأمنية
ويقول أحد سكان عشوائيات في مدينه طرابلس الظروف جبرتني بعد خروجي من سكني الذي هدم في الحرب وبقائي دون مسكن أنا وأسرتي إلى بناء بيت صغير في عين زاره على أرض، وجدت كثيرين يقولون تابعة للدولة، وأنا متضرَّر والدولة لم تتحرك لتعويضي وحل معاناتي اليوميه، لم أجد مكاناً أشيّد عليه بيتي إلا خارج المخططات، لقد دُفِعت إلى ذلك، فثمن الأرض التي اشتريتها مع تكلفة البناء أرخص من شقة، وأكثر مساحة.
ويضيف محمد ميلاد موظف في وزارة الإسكان قانون 59 الخاص بالإدارة المحلية كان قائمًا على فكرتين، المحافظات والبلديات، وللأسف تم إرجاء تقسيم المحافظات واعتماد البلديات صغيرة الحجم والقدرة، وهذا بمثابة رصاصة في قلب رجل مريض.
ويرى مراقبون أن حالة الفوضى الأمنية قد فاقمت الظاهرة.
وتشير التقارير أن مسألة الوضع الأمني المتأزم وانتشار السلاح منذ سنين، بشكل لا يساعد على كف امتداد النمو العشوائي بالإضافة إلى المركزية الإدارية التي إأسهمت في تعميق الأزمة، لأن الكل يريد الإقامة في العاصمة حيث المؤسسات وفرص العمل أكثر، والإجراءات أسهل.
مساحات وأراضٍ
إن مساحة مدينة بنغازي كانت قبل العام 2009، 32 ألف هكتار، وتبلغ مساحتها الآن نتيجة العشوائيات 64 ألفًا أي أن نصف بناء المدينة خارج المخطط العام الذي وضعته الدولة.
ويقول مسؤول المشروعات في بنغازي: هناك أكثر من 50 ألف وحدة سكنية خارج المخطط العام في المدينة لا يتوافر فيها الحد الأدنى من المعايير التخطيطية للتجمعات من حيث الطرق الرئيسة والفرعية وممرات المشاة والحدائق ورياض الأطفال والمدارس والمراكز الصحية والتجارية والإدارية.
وما تشهده البلاد من حملات إزالة هي خطوة فالاتجاه الصحيح لإعادة المدن لشكلها الأصلي وجمال تخطيطها العمراني.
جهات وإدارات
أزمة العشوائيات تتحمل مسؤوليتها الدولة ومعالجتها تأتي ضمن خطة متكاملة لإعادة تنظيم المخططات وفق ما هو موجودٌ في الرسوم القديمة لمخططات المدن، وما تشهده مدينتا «طرابلس، وبنغازي» من ازالة للعشوائيات يعد مرحلة أولى وأساسية لعمليات القضاء علىالعشوائيات.
ناقشت الحكومة إمكانية إطلاق مرحلة أولى من خطة قصيرة الأجل لمعالجة عشوائيات في منطقة عين زارة جنوبي طرابلس، بمساحة 22 ألف هكتار، ومنطقة السيدة عائشة في مدينة بنغازي بمساحة 15 ألف هكتار، ومنطقة بمساحة سبعة آلاف هكتار في سبها.
وبدأت حملة إزالة المحال التجارية التي بنيت بشكل عشوائي من دون تراخيص، في مارس الماضي، على خلفية مشروعات لتنفيذ طرق رئيسة تتطلب توسيع مساراتها في داخل الأحياء السكنية وفي محيطها، قبل أن تتوسع الحملة لتضم منازل في الكثير من الأحياء.
وتعاونت جهات عدة لتنفيذ هذه الخطوة فقد واصلت إدارة خدمات الدعم والإسناد والطوارئ بشركة «الخدمات العامة – طرابلس» أعمال المرحلة الثانية لعمليات التهيئة وفتح المسار لمشروع طريق الدائري الثالث في منطقة الهضبة البدري، وفتح المسار لمشروع طريق الدائري الثالث في منطقتي السبعة، وطريق الشوك.
فشركة الخدمات العامة وإدارة إنفاذ القانون والحرس البلدي إلى جانب الحكم المحلي والداخلية كلها أجهزة تعمل معًا لتنفيذ قرارات بشأن إزالة العشوائيات وارجاع أراضٍ لأصحابها وفتح مسارات لطرق حديثة وجسور.
أما جهاز إنفاذ القانون فقد أوضح أنه حريصٌ على تنفيذ كل ما يحاول إليه من قرارات بشأن إزالة العشوائيات، )مساكن، محال تجارية( وغيرهما غير مرخصة أو مبنية في أراضٍ تم انتهاكها في فترات الحروب وإعادتها لأصحابها.
احتجاج وغياب تعويضات
يعبر عبد الله العالم وهو من سكان العاصمة طرابلس، عن مخاوفه من أن يلقى محله التجاري بمنطقة زناتة نفس مصير المحال التي طالتها عمليات الإزالة في منطقة قرقارش.
ويضيف أن الحكومة جرفت منازل السكان غير المرخصة، و وعدتهم بتعويضات، لكن كثيرين منهم لا يزالون ينتظرون عمليات الإزالة في قرقارش تمت في أكتوبر 2022، والسلطات لمحت خلال الهدم إلى أن أصحابها سيتم تعويضهم، ولكن لو افترضنا جدلاً أن الأمر صحيح، فلماذا تتم هذه العمليات بطريقة تشبه المداهمة من دون سابق إنذار؟! كثير من المواطنين تضرروا ولحقتهم خسائر.
أما سالم الزوبيك وهو أحد سكان سوق الجمعة بطرابلس، فقال إن إزالة العشوائيات فيها جانب إيجابي، إذ تقلَّل من الزحام، وتنهي التعدي على الطرق والأراضي العامة، لكنه يعبر عن تخوفه من إمكانية عدم استكمال الحكومة مشروعاتها التنموية الخاصة بمعالجة أزمة العشوائيات.
ويضيف : صفة المؤقتة التي تلازم الحكومات تثير القلق، فكل حكومة تلغي إجراءات السابقة وتبدأ من جديد، والأحرى أن تتوجه الحكومة إلى معالجة أزمة السكن في المناطق المتضرَّرة من الحرب.
أحياء جنوبي طرابلس تحولتْ منازلها المدمرة إلى ما يشبه العشوائيات، فضلاً عن أزمة مساكن الأحياء القديمة التي يضطر لسكنها الفقراء، وهم الأحق بمعالجة أزماتهم.
وتظل العشوائيات أزمة عمرانية قائمة طالما الدولة لم تُفعل قوانينها والإسكان والتخطيط يقوم بدوره في رسم المسارات وضع المخططات العمرانية في دائرة التنفيذ والمحافظة.
أما الوعي فالمواطن جزءٌ رئيس وأساسي في صُنع هذه الظاهرة إذا لم يتحمل مسؤولية خطورة التجاوزات وأهمية معرفة الوزنين وعدم تجاوزها.