لستَ بحاجةٍ إلى كبير عناء لتلاحظ التوجه غير المسبوق للرسائل الأكاديمية في جامعاتنا نحو الدراسات السردية التي تتناول بالنقد والتحليل الرواية وغيرها من أنواع السرد القصصي الحديث، وفق إطار نظري نقدي شبه مكرَّر، وقد أصبح هذا النَّوع من الدراسات )في أغلبه( مركبًا وطيئًا سهلًا لمن أراد الحصول على الإجازات الأكاديمية سواءً العالية أو الدقيقة، وهذا ليس مقصورًا على الجامعات الليبية، بل الأمر نفسه نجده في الجامعات العربية كذلك، مما أدى إلى العزوف عن دراسة الأدب العربي القديم بصناعتيه الشعر والنثر، وهنا تكمن خطورة الأمر وذلك في خلق قطيعة بين طلابنا والموروث الأدبي العظيم الذي لازال بحاجة إلى أن تفرد له العديد من الدراسات الرصينة، تتناوله بالنقد والتحليل لغةً، وأسلوبًا، ومضمونًا كذلك، فكيف لباحث جاد عاقل أن يترك شعر المتنبي مثلًا أو شعر أبي العلاء المعري ونثره أيضًا، أو غيرهما من عمالقة الأدب القديم، ويبذل مجهودًا علميًا في نص روائي لا تخلو لغته من ركاكة وضعف ولحن، كما لا نجد فيه مضمونًا يستحق الالتفات إليه، ولا ندري كيف كتبه صاحبه أو صاحبته، أ في حالة وعيه أم سكره، وما الرسائل والمضامين التي أراد لها أن تصل إلى متلقيه، وبأية الدعاوى والتيارات الوافدة والغريبة عن هويتنا قد تأثر.
أكتب هذه السطور وأنا أحسب نفسي المتخصص فى نقد الرواية والدراسات السردية، ولي فيها العديد من الأبحاث العلمية المنشورة.
إن لهذا التوجه البحثي في نظري أسبابًا عدة، منها على سبيل المثال:
- وجود الإطار النقدي النظري لهذه الدراسات، وما على الباحث إلا اختيار أنموذج سردي يطبق هذا الإطار عليه، بمعنى أن نصف الدراسة أو يزيد موجود مسبقًا في الكتب والدراسات السابقة.
- تجنب عناء البحث عن موضوع في الأدب العربي القديم يستحق الدراسة، وهذا الأمر من الصعوبة بمكان؛ فالكثير من موضوعات أدبنا القديم وقضاياه قد درست، والحصول على موضوع يستأهل الدراسة يحتاج لبذل جهد كبير لا يستطيعه أي باحث.
- صعوبة لغة الأدب القديم، وعمق مضامينه، فدارس الأدب القديم يحتاج إلى دراية كافية بمعجم الشعر القديم، ودراية كذلك بالبلاغة وعلومها، والنقد القديم وقضاياه، وأن ينال طرفًا من تأريخ الأدب، وطبائع عصوره المختلفة، وخصائصها الفنية، ومؤثراتها السياسية والثقافية.
- أن يكون لدى الدارس شيء ولو يسير من معرفة التوجهات الفلسفية، والنحل المذهبية السائدة في العصور القديمة، التي حتمًا كان لها كبير الأثر في الشعر والنثر القديمين بناءً ومضمونًا.
- الانجذاب وراء سحر الحداثة، والافتتان بمصطلحاتها، التي يُعد تكرارها )لدى الكثيرين( علامة من علامات الثقافة، والرقي، ومواكبة مقتضيات العصر، والخروج من الجمود الفكري والثقافي، وتجاوز الأطر الكلاسيكية.
وثمة الكثير من الأسباب الأخرى التي لا يسع المقام لذكرها.
الحل:
في ظل هذه الموجة العارمة من التوجه نحو تسطيح الدراسات العلمية، التي أصبحت نسخة مكررة، وممسوخة أحيانًا، التي نراها تنأى بقصد أو بدونه عن دراسة أدبنا القديم، وتضرب عنه صفحًا.
أرى أن أقسام اللغة العربية لها دور كبير في إعادة الأمور إلى نصابها، وتصحيح مسار الدراسات العليا، وخلق حالة من التوازن بين الدراسات النقدية بحيث لا تميل كل الميل إلى الدراسات الحداثية، وترشد طلابها إلى تناول الأدب القديم، ومن أراد منهم أن يدرس السرد فموروثنا القديم زاخر بأنماط السرود التي تستحق الدراسة، وهي في غاية الإبداع، والإمتاع، والرصانة، لغةً وأسلوبًا ومضمونًا.
ملحوظة : قد أشرفتُ وناقشت العديد من الرسائل العلمية التي تناولت الرواية نقدًا وتحليلًا، ولازالت العديد منها قيد الإنجاز، فلست رافضًا للدراسات الحداثية مطلقًا، ولكنني مع التوازن بين القديم والحديث، وعدم استحواذ أحدهما على الآخر.