ثقافة

الرواية وما أدراك ما الرواية

عماد خالد الهصك

لستَ‭ ‬بحاجةٍ‭ ‬إلى‭ ‬كبير‭ ‬عناء‭ ‬لتلاحظ‭ ‬التوجه‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬للرسائل‭ ‬الأكاديمية‭ ‬في‭ ‬جامعاتنا‭ ‬نحو‭ ‬الدراسات‭ ‬السردية‭ ‬التي‭ ‬تتناول‭ ‬بالنقد‭ ‬والتحليل‭ ‬الرواية‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬أنواع‭ ‬السرد‭ ‬القصصي‭ ‬الحديث،‭ ‬وفق‭ ‬إطار‭ ‬نظري‭ ‬نقدي‭ ‬شبه‭ ‬مكرَّر،‭ ‬وقد‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬النَّوع‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ )‬في‭ ‬أغلبه‭( ‬مركبًا‭ ‬وطيئًا‭ ‬سهلًا‭ ‬لمن‭ ‬أراد‭ ‬الحصول‭ ‬على‭ ‬الإجازات‭ ‬الأكاديمية‭ ‬سواءً‭ ‬العالية‭ ‬أو‭ ‬الدقيقة،‭ ‬وهذا‭ ‬ليس‭ ‬مقصورًا‭ ‬على‭ ‬الجامعات‭ ‬الليبية،‭ ‬بل‭ ‬الأمر‭ ‬نفسه‭ ‬نجده‭ ‬في‭ ‬الجامعات‭ ‬العربية‭ ‬كذلك،‭ ‬مما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬العزوف‭ ‬عن‭ ‬دراسة‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬بصناعتيه‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر،‭ ‬وهنا‭ ‬تكمن‭ ‬خطورة‭ ‬الأمر‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬خلق‭ ‬قطيعة‭ ‬بين‭ ‬طلابنا‭ ‬والموروث‭ ‬الأدبي‭ ‬العظيم‭ ‬الذي‭ ‬لازال‭ ‬بحاجة‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬تفرد‭ ‬له‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الدراسات‭ ‬الرصينة،‭ ‬تتناوله‭ ‬بالنقد‭ ‬والتحليل‭ ‬لغةً،‭ ‬وأسلوبًا،‭ ‬ومضمونًا‭ ‬كذلك،‭ ‬فكيف‭ ‬لباحث‭ ‬جاد‭ ‬عاقل‭ ‬أن‭ ‬يترك‭ ‬شعر‭ ‬المتنبي‭ ‬مثلًا‭ ‬أو‭ ‬شعر‭ ‬أبي‭ ‬العلاء‭ ‬المعري‭ ‬ونثره‭ ‬أيضًا،‭ ‬أو‭ ‬غيرهما‭ ‬من‭ ‬عمالقة‭ ‬الأدب‭ ‬القديم،‭ ‬ويبذل‭ ‬مجهودًا‭ ‬علميًا‭ ‬في‭ ‬نص‭ ‬روائي‭ ‬لا‭ ‬تخلو‭ ‬لغته‭ ‬من‭ ‬ركاكة‭ ‬وضعف‭ ‬ولحن،‭ ‬كما‭ ‬لا‭ ‬نجد‭ ‬فيه‭ ‬مضمونًا‭ ‬يستحق‭ ‬الالتفات‭ ‬إليه،‭ ‬ولا‭ ‬ندري‭ ‬كيف‭ ‬كتبه‭ ‬صاحبه‭ ‬أو‭ ‬صاحبته،‭ ‬أ‭ ‬في‭ ‬حالة‭ ‬وعيه‭ ‬أم‭ ‬سكره،‭ ‬وما‭ ‬الرسائل‭ ‬والمضامين‭ ‬التي‭ ‬أراد‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬إلى‭ ‬متلقيه،‭ ‬وبأية‭ ‬الدعاوى‭ ‬والتيارات‭ ‬الوافدة‭ ‬والغريبة‭ ‬عن‭ ‬هويتنا‭ ‬قد‭ ‬تأثر‭.‬

أكتب‭ ‬هذه‭ ‬السطور‭ ‬وأنا‭ ‬أحسب‭ ‬نفسي‭ ‬المتخصص‭ ‬فى‭ ‬نقد‭ ‬الرواية‭ ‬والدراسات‭ ‬السردية،‭ ‬ولي‭ ‬فيها‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الأبحاث‭ ‬العلمية‭ ‬المنشورة‭.‬

إن‭ ‬لهذا‭ ‬التوجه‭ ‬البحثي‭ ‬في‭ ‬نظري‭ ‬أسبابًا‭ ‬عدة،‭ ‬منها‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭:‬

‭- ‬وجود‭ ‬الإطار‭ ‬النقدي‭ ‬النظري‭ ‬لهذه‭ ‬الدراسات،‭ ‬وما‭ ‬على‭ ‬الباحث‭ ‬إلا‭ ‬اختيار‭ ‬أنموذج‭ ‬سردي‭ ‬يطبق‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬عليه،‭ ‬بمعنى‭ ‬أن‭ ‬نصف‭ ‬الدراسة‭ ‬أو‭ ‬يزيد‭ ‬موجود‭ ‬مسبقًا‭ ‬في‭ ‬الكتب‭ ‬والدراسات‭ ‬السابقة‭.‬

‭- ‬تجنب‭ ‬عناء‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬موضوع‭ ‬في‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭ ‬القديم‭ ‬يستحق‭ ‬الدراسة،‭ ‬وهذا‭ ‬الأمر‭ ‬من‭ ‬الصعوبة‭ ‬بمكان؛‭ ‬فالكثير‭ ‬من‭ ‬موضوعات‭ ‬أدبنا‭ ‬القديم‭ ‬وقضاياه‭ ‬قد‭ ‬درست،‭ ‬والحصول‭ ‬على‭ ‬موضوع‭ ‬يستأهل‭ ‬الدراسة‭ ‬يحتاج‭ ‬لبذل‭ ‬جهد‭ ‬كبير‭ ‬لا‭ ‬يستطيعه‭ ‬أي‭ ‬باحث‭.‬

‭- ‬صعوبة‭ ‬لغة‭ ‬الأدب‭ ‬القديم،‭ ‬وعمق‭ ‬مضامينه،‭ ‬فدارس‭ ‬الأدب‭ ‬القديم‭ ‬يحتاج‭ ‬إلى‭ ‬دراية‭ ‬كافية‭ ‬بمعجم‭ ‬الشعر‭ ‬القديم،‭ ‬ودراية‭ ‬كذلك‭ ‬بالبلاغة‭ ‬وعلومها،‭ ‬والنقد‭ ‬القديم‭ ‬وقضاياه،‭ ‬وأن‭ ‬ينال‭ ‬طرفًا‭ ‬من‭ ‬تأريخ‭ ‬الأدب،‭ ‬وطبائع‭ ‬عصوره‭ ‬المختلفة،‭ ‬وخصائصها‭ ‬الفنية،‭ ‬ومؤثراتها‭ ‬السياسية‭ ‬والثقافية‭.‬

‭- ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لدى‭ ‬الدارس‭ ‬شيء‭ ‬ولو‭ ‬يسير‭ ‬من‭ ‬معرفة‭ ‬التوجهات‭ ‬الفلسفية،‭ ‬والنحل‭ ‬المذهبية‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬العصور‭ ‬القديمة،‭ ‬التي‭ ‬حتمًا‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬كبير‭ ‬الأثر‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬والنثر‭ ‬القديمين‭ ‬بناءً‭ ‬ومضمونًا‭.‬

‭- ‬الانجذاب‭ ‬وراء‭ ‬سحر‭ ‬الحداثة،‭ ‬والافتتان‭ ‬بمصطلحاتها،‭ ‬التي‭ ‬يُعد‭ ‬تكرارها‭ )‬لدى‭ ‬الكثيرين‭( ‬علامة‭ ‬من‭ ‬علامات‭ ‬الثقافة،‭ ‬والرقي،‭ ‬ومواكبة‭ ‬مقتضيات‭ ‬العصر،‭ ‬والخروج‭ ‬من‭ ‬الجمود‭ ‬الفكري‭ ‬والثقافي،‭ ‬وتجاوز‭ ‬الأطر‭ ‬الكلاسيكية‭.‬

وثمة‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬الأسباب‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يسع‭ ‬المقام‭ ‬لذكرها‭.‬

الحل‭: ‬

في‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬الموجة‭ ‬العارمة‭ ‬من‭ ‬التوجه‭ ‬نحو‭ ‬تسطيح‭ ‬الدراسات‭ ‬العلمية،‭ ‬التي‭ ‬أصبحت‭ ‬نسخة‭ ‬مكررة،‭ ‬وممسوخة‭ ‬أحيانًا،‭ ‬التي‭ ‬نراها‭ ‬تنأى‭ ‬بقصد‭ ‬أو‭ ‬بدونه‭ ‬عن‭ ‬دراسة‭ ‬أدبنا‭ ‬القديم،‭ ‬وتضرب‭ ‬عنه‭ ‬صفحًا‭.‬

أرى‭ ‬أن‭ ‬أقسام‭ ‬اللغة‭ ‬العربية‭ ‬لها‭ ‬دور‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬إعادة‭ ‬الأمور‭ ‬إلى‭ ‬نصابها،‭ ‬وتصحيح‭ ‬مسار‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا،‭ ‬وخلق‭ ‬حالة‭ ‬من‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬الدراسات‭ ‬النقدية‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬تميل‭ ‬كل‭ ‬الميل‭ ‬إلى‭ ‬الدراسات‭ ‬الحداثية،‭ ‬وترشد‭ ‬طلابها‭ ‬إلى‭ ‬تناول‭ ‬الأدب‭ ‬القديم،‭ ‬ومن‭ ‬أراد‭ ‬منهم‭ ‬أن‭ ‬يدرس‭ ‬السرد‭ ‬فموروثنا‭ ‬القديم‭ ‬زاخر‭ ‬بأنماط‭ ‬السرود‭ ‬التي‭ ‬تستحق‭ ‬الدراسة،‭ ‬وهي‭ ‬في‭ ‬غاية‭ ‬الإبداع،‭ ‬والإمتاع،‭ ‬والرصانة،‭ ‬لغةً‭ ‬وأسلوبًا‭ ‬ومضمونًا‭.‬

ملحوظة‭ :‬‭ ‬قد‭ ‬أشرفتُ‭ ‬وناقشت‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الرسائل‭ ‬العلمية‭ ‬التي‭ ‬تناولت‭ ‬الرواية‭ ‬نقدًا‭ ‬وتحليلًا،‭ ‬ولازالت‭ ‬العديد‭ ‬منها‭ ‬قيد‭ ‬الإنجاز،‭ ‬فلست‭ ‬رافضًا‭ ‬للدراسات‭ ‬الحداثية‭ ‬مطلقًا،‭ ‬ولكنني‭ ‬مع‭ ‬التوازن‭ ‬بين‭ ‬القديم‭ ‬والحديث،‭ ‬وعدم‭ ‬استحواذ‭ ‬أحدهما‭ ‬على‭ ‬الآخر‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى