طالما تحدثتُ في بعض المواضيع عن «الخفة» كظاهرة جمالية، في الإبداع عمومًا، وفي الموسيقا والشعر بشكل خاص، وضربتُ أمثلة
بـ)الفراشات، وبالألوان، وبحفيف أوراق الشجر(، وقلتَّ إنّ الأمرَ لا يعدو كونه منحة ربانية لا يمكن تصنَُعِها، لكن يمكن التدرب عليها، إنها ظاهرة تبدأ من رفعة الخلق، وتنتهي برفعة القراءات والثقافة، وتمرين العقل على السمو، ثم يأتي الذوق، الذوق أيضاً مران ودُربة تشترط في بداياتها معرفة المفاهيم والإصطلاحات، ثم تنطلق رويدًا إلى النصوص التي تتعاظم تدريجيًا لتصبح فخمةً، بمعنى أنّ نقرأ بالتدريج من الفخم، إلى الأكثر فخامة، وهكذا.
الفن حسب رأيي، هذا ديدنه، الفن من أصعب المجالات العلمية ممارسة، سيقول قائلٌ ما دخل العلم في الفن؟، أقول إنّ الفنَ أبو العلوم، وخالقها، والعلوم التي تفتقر إلى الفن، هي علوم لا يعول عليها؛ الفن الذي أتقصده هنا هو الفن بشتى حقوله، ولعل الموسيقا هي أمه الرؤوم.
)تونس مفتاح( ستكون أمثولةً لما أشرتُ إليه آنفًا، فنانة ليبية مبدعة، بكل المقاييس، وظاهرة مفصلية في رأيي في تاريخ الغناء، للصوت النسوي في بلادنا، شقتْ طريقها بالتدريج، وابتعدتْ عن أي هرج، أو زيادة في معايير الشهرة، فنانة ليبية ملتزمة، صوت نبيل وشجي، وحضور أنيق هادئ ومهذب جدًا.
لستُ أقارنها مع أحد، فلكل فنانة في بلادنا ميزتها، وكلهن في رأيي أبدعن.
تونس تغنتْ بكلمات الكثيرين من الشعراء الغنائيين المحليين المبدعين، الحقيقة أنني انتبهتُ أكثر إلى الشاعر المبدع، سليمان الترهوني في صوت تونس مفتاح، لعل سيمفونية )ما تغيب(، أحد أجمل ما تغنتْ به، في كل أغنياتها من كلماته، والحقيقة أن تونس تتلبس كلماتها تمامًا عندما تغني، سواء أمام جمهورها، أو في تقنية الفيديو كليب)وهي ظاهرة قديمة في التلفزيون الليبي( هذا الفيديو الذي أخرجه الفنان عز الدين عبدالكريم، انقسمتْ فيه الأغنية إلى 7 كوبليهات تقريبًا، وقد تجانس كل كوبليه مع كلماته الفخمة المعاني، والرومانسية إلى حد فائق في الجمال والإبداع، أغنية، وكلمات تلبست مقاماتها الموسيقية، ولحنها البالغ الروعة للفنان فرحات فضل، أغنية تجنس نفسها تمامًا، وتتلفح برداء نغماتها الليبية الأصيلة، أغنية مبدعة بكل المقاييس، وطبعتْ نفسها في تاريخ الموسيقا الليبية، والأغنية الليبية كأحد أجمل الأغاني، وأقواها مقاومة لعوامل الفناء، اسوة بأغانٍ كثيرة يصعب تعدادها هنا، فقط تبقى هذه الأغنية علامة فارقة في تاريخ الأغنية الليبية كونها تم الاشتغال عليها بعناية فائقة، وقد تلبستها بالفعل عوامل مهمة أخرى، لعل من أهمها عامل «الخفة» الإبداعي وتونس مفتاح بأمانة، في رأيي الأكاديمي، تعد بكل أغانيها، مشروع دراسة حقلية أكاديمية لطلاب الموسيقا في بلادنا، أرجو أن يتم الاهتمام به تحديدًا، وتوثيقه، خوفًا من الاهمال.
لذا فإنني أدعو الفنانة الليبية تونس مفتاح، التي أراها أحد أهم أيقونات الالتزام، الالتزام الذوقي، بالأصالة الليبية والموروث الليبي للأغنية، أن تعود إلى الساحة، خصوصًا وأنها الآن لم يزل في صوتها الكثير مما يمكن أن تبدعه، وكنتُ تحدثتُ مع الزميل الموسيقار بشير السيد، بصدد تلحين بعض الأغاني لها، ضمن مشروعاته الأخيرة. لأنني أشرتُ عليه، أنَّ في صوت تونس نبرات تتفاخم في كل مرة، وتعطي أهلية الإبداع لكل كلمة من كلمات الأغنية على حده، ما تستحقه من توافق.
تحية لها، ونتمنى لها العافية وطول العمر.