فنون

نوتة.. الخفة في الأغنية الليبية

نورالدين سعيد

طالما‭ ‬تحدثتُ‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواضيع‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الخفة‮»‬‭ ‬كظاهرة‭ ‬جمالية،‭ ‬في‭ ‬الإبداع‭ ‬عمومًا،‭ ‬وفي‭ ‬الموسيقا‭ ‬والشعر‭ ‬بشكل‭ ‬خاص،‭ ‬وضربتُ‭ ‬أمثلة

بـ‭)‬الفراشات،‭ ‬وبالألوان،‭ ‬وبحفيف‭ ‬أوراق‭ ‬الشجر‭(‬،‭ ‬وقلتَّ‭ ‬إنّ‭ ‬الأمرَ‭ ‬لا‭ ‬يعدو‭ ‬كونه‭ ‬منحة‭ ‬ربانية‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تصنَُعِها،‭ ‬لكن‭ ‬يمكن‭ ‬التدرب‭ ‬عليها،‭ ‬إنها‭ ‬ظاهرة‭ ‬تبدأ‭ ‬من‭ ‬رفعة‭ ‬الخلق،‭ ‬وتنتهي‭ ‬برفعة‭ ‬القراءات‭ ‬والثقافة،‭ ‬وتمرين‭ ‬العقل‭ ‬على‭ ‬السمو،‭ ‬ثم‭ ‬يأتي‭ ‬الذوق،‭ ‬الذوق‭ ‬أيضاً‭ ‬مران‭ ‬ودُربة‭ ‬تشترط‭ ‬في‭ ‬بداياتها‭ ‬معرفة‭ ‬المفاهيم‭ ‬والإصطلاحات،‭ ‬ثم‭ ‬تنطلق‭ ‬رويدًا‭ ‬إلى‭ ‬النصوص‭ ‬التي‭ ‬تتعاظم‭ ‬تدريجيًا‭ ‬لتصبح‭ ‬فخمةً،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنّ‭ ‬نقرأ‭ ‬بالتدريج‭ ‬من‭ ‬الفخم،‭ ‬إلى‭ ‬الأكثر‭ ‬فخامة،‭ ‬وهكذا‭.‬

الفن‭ ‬حسب‭ ‬رأيي،‭ ‬هذا‭ ‬ديدنه،‭ ‬الفن‭ ‬من‭ ‬أصعب‭ ‬المجالات‭ ‬العلمية‭ ‬ممارسة،‭ ‬سيقول‭ ‬قائلٌ‭ ‬ما‭ ‬دخل‭ ‬العلم‭ ‬في‭ ‬الفن؟،‭ ‬أقول‭ ‬إنّ‭ ‬الفنَ‭ ‬أبو‭ ‬العلوم،‭ ‬وخالقها،‭ ‬والعلوم‭ ‬التي‭ ‬تفتقر‭ ‬إلى‭ ‬الفن،‭ ‬هي‭ ‬علوم‭ ‬لا‭ ‬يعول‭ ‬عليها؛‭ ‬الفن‭ ‬الذي‭ ‬أتقصده‭ ‬هنا‭ ‬هو‭ ‬الفن‭ ‬بشتى‭ ‬حقوله،‭ ‬ولعل‭ ‬الموسيقا‭ ‬هي‭ ‬أمه‭ ‬الرؤوم‭.‬‭ ‬

‭)‬تونس‭ ‬مفتاح‭( ‬ستكون‭ ‬أمثولةً‭ ‬لما‭ ‬أشرتُ‭ ‬إليه‭ ‬آنفًا،‭ ‬فنانة‭ ‬ليبية‭ ‬مبدعة،‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس،‭ ‬وظاهرة‭ ‬مفصلية‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الغناء،‭ ‬للصوت‭ ‬النسوي‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬شقتْ‭ ‬طريقها‭ ‬بالتدريج،‭ ‬وابتعدتْ‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬هرج،‭ ‬أو‭ ‬زيادة‭ ‬في‭ ‬معايير‭ ‬الشهرة،‭ ‬فنانة‭ ‬ليبية‭ ‬ملتزمة،‭ ‬صوت‭ ‬نبيل‭ ‬وشجي،‭ ‬وحضور‭ ‬أنيق‭ ‬هادئ‭ ‬ومهذب‭ ‬جدًا‭.‬

لستُ‭ ‬أقارنها‭ ‬مع‭ ‬أحد،‭ ‬فلكل‭ ‬فنانة‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭ ‬ميزتها،‭ ‬وكلهن‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬أبدعن‭.‬

تونس‭ ‬تغنتْ‭ ‬بكلمات‭ ‬الكثيرين‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬الغنائيين‭ ‬المحليين‭ ‬المبدعين،‭ ‬الحقيقة‭ ‬أنني‭ ‬انتبهتُ‭ ‬أكثر‭ ‬إلى‭ ‬الشاعر‭ ‬المبدع،‭ ‬سليمان‭ ‬الترهوني‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬تونس‭ ‬مفتاح،‭ ‬لعل‭ ‬سيمفونية‭ )‬ما‭ ‬تغيب‭(‬،‭ ‬أحد‭ ‬أجمل‭ ‬ما‭ ‬تغنتْ‭ ‬به،‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬أغنياتها‭ ‬من‭ ‬كلماته،‭ ‬والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬تونس‭ ‬تتلبس‭ ‬كلماتها‭ ‬تمامًا‭ ‬عندما‭ ‬تغني،‭ ‬سواء‭ ‬أمام‭ ‬جمهورها،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬تقنية‭ ‬الفيديو‭ ‬كليب‭)‬وهي‭ ‬ظاهرة‭ ‬قديمة‭ ‬في‭ ‬التلفزيون‭ ‬الليبي‭( ‬هذا‭ ‬الفيديو‭ ‬الذي‭ ‬أخرجه‭ ‬الفنان‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬عبدالكريم،‭ ‬انقسمتْ‭ ‬فيه‮ ‬‭ ‬الأغنية‭ ‬إلى‭ ‬7‭ ‬كوبليهات‭ ‬تقريبًا،‭ ‬وقد‭ ‬تجانس‭ ‬كل‭ ‬كوبليه‭ ‬مع‭ ‬كلماته‭ ‬الفخمة‭ ‬المعاني،‭ ‬والرومانسية‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬فائق‭ ‬في‭ ‬الجمال‭ ‬والإبداع،‭ ‬أغنية،‭ ‬وكلمات‭ ‬تلبست‭ ‬مقاماتها‭ ‬الموسيقية،‭ ‬ولحنها‭ ‬البالغ‭ ‬الروعة‭ ‬للفنان‭ ‬فرحات‭ ‬فضل،‭ ‬أغنية‭ ‬تجنس‭ ‬نفسها‭ ‬تمامًا،‭ ‬وتتلفح‭ ‬برداء‭ ‬نغماتها‭ ‬الليبية‭ ‬الأصيلة،‭ ‬أغنية‭ ‬مبدعة‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس،‭ ‬وطبعتْ‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الموسيقا‭ ‬الليبية،‭ ‬والأغنية‭ ‬الليبية‭ ‬كأحد‭ ‬أجمل‭ ‬الأغاني،‭ ‬وأقواها‭ ‬مقاومة‭ ‬لعوامل‭ ‬الفناء،‭ ‬اسوة‭ ‬بأغانٍ‭ ‬كثيرة‭ ‬يصعب‭ ‬تعدادها‭ ‬هنا،‭ ‬فقط‭ ‬تبقى‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬علامة‭ ‬فارقة‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الأغنية‭ ‬الليبية‭ ‬كونها‭ ‬تم‭ ‬الاشتغال‭ ‬عليها‭ ‬بعناية‭ ‬فائقة،‭ ‬وقد‭ ‬تلبستها‭ ‬بالفعل‭ ‬عوامل‭ ‬مهمة‭ ‬أخرى،‭ ‬لعل‭ ‬من‭ ‬أهمها‭ ‬عامل‭ ‬‮«‬الخفة‮»‬‭ ‬الإبداعي‭ ‬وتونس‭ ‬مفتاح‭ ‬بأمانة،‭ ‬في‭ ‬رأيي‭ ‬الأكاديمي،‭ ‬تعد‭ ‬بكل‭ ‬أغانيها،‭ ‬مشروع‭ ‬دراسة‭ ‬حقلية‭ ‬أكاديمية‭ ‬لطلاب‭ ‬الموسيقا‭ ‬في‭ ‬بلادنا،‭ ‬أرجو‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬الاهتمام‭ ‬به‭ ‬تحديدًا،‭ ‬وتوثيقه،‭ ‬خوفًا‭ ‬من‭ ‬الاهمال‭.‬

لذا‭ ‬فإنني‭ ‬أدعو‭ ‬الفنانة‭ ‬الليبية‭ ‬تونس‭ ‬مفتاح،‭ ‬التي‭ ‬أراها‭ ‬أحد‭ ‬أهم‭ ‬أيقونات‭ ‬الالتزام،‭ ‬الالتزام‭ ‬الذوقي،‭ ‬بالأصالة‭ ‬الليبية‭ ‬والموروث‭ ‬الليبي‭ ‬للأغنية،‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الساحة،‭ ‬خصوصًا‭ ‬وأنها‭ ‬الآن‭ ‬لم‭ ‬يزل‭ ‬في‭ ‬صوتها‭ ‬الكثير‭ ‬مما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تبدعه،‭ ‬وكنتُ‭ ‬تحدثتُ‭ ‬مع‭ ‬الزميل‭ ‬الموسيقار‭ ‬بشير‭ ‬السيد،‭ ‬بصدد‭ ‬تلحين‭ ‬بعض‭ ‬الأغاني‭ ‬لها،‭ ‬ضمن‭ ‬مشروعاته‭ ‬الأخيرة‭. ‬لأنني‭ ‬أشرتُ‭ ‬عليه،‭ ‬أنَّ‭ ‬في‭ ‬صوت‭ ‬تونس‭ ‬نبرات‭ ‬تتفاخم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة،‭ ‬وتعطي‭ ‬أهلية‭ ‬الإبداع‭ ‬لكل‭ ‬كلمة‭ ‬من‭ ‬كلمات‭ ‬الأغنية‭ ‬على‭ ‬حده،‭ ‬ما‭ ‬تستحقه‭ ‬من‭ ‬توافق‭.‬

تحية‭ ‬لها،‭ ‬ونتمنى‭ ‬لها‭ ‬العافية‭ ‬وطول‭ ‬العمر‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى