جمعة أبو كليب :
يقدم الروائي والكاتب جمعة أبو كليب سيرة الشخوص والأماكن عبر القصة، والرواية، وحتى المقالة، هو يحاول انطلاقًا من التجربة والقراءة والكتابة تتبع أبجديات الواقع الليبي، ونقده ثقافيا ونقل تجربته لدى الآخر الأوروبي الينا والعكس.
في هذا اللقاء القصير نتعرف على جزء من مساره السردي وأسئلته.
في كتاباتكَ من «قصص البر الإنجليزي» إلى «نهارات لندنية» نجد بحثًا دائًما عن صيغ سردية مختلفة، هل وصلتَ إلى هذه الصيغة أم أنك من أنصار التجريب؟
أعتقد أن الكاتب الإبداعي على وجه الخصوص لا يتوقف عن البحث عن صيغ سردية مختلفة، أحيانًا من باب الاستشكاف، أو التجريب، وأحيانًا أخرى تفرض القصة، أو الحكاية أسلوب سردها. وقد يعني كذلك الهروب من ضجر الأسر في قالب واحد. الحياة رحبة وفسيحة، والمرء لا يسبح في النهر نفسه مرتين.
في «نهارات لندنية» نرى شخوصًا ومصائر مختلفة، جميعها ترى الوطن والعودة إليه بشكل مختلف، وكأنكَ تحوَّل المفهوم التقليدي إلى صيغة «كوزموبوليتية».
في «نهارات لندنية» ثيمتا الوطن والغربة أساسيان؛ في الغربة يكتشف المرءُ أشياءً جديدة، وعديدة، ويتسع أفقه ومداركه، وتتعدد وسائل اطلاعه، ويتعلم العيشَ بسلام مع ثقافة مختلفة، ولسان مختلف، ومع آخرين مختلفين. الوطن بصفة خاصة سؤال مشوك في ذهن الغريب والمنفي لا يغادره، خصوصًا إذا لم تكن مغادرته لبلاده طوعية بل جاءت نتيجة ظروف سياسية، أو اقتصادية. وشخصيات الرواية يتطرقون لسؤال الوطن، كل واحد منهم يراه من زاويته الخاصة الناجمة عن تجربته الشخصية في الوطن، وفي المنفى.
نحن في الحقيقة نبحث عن وطن يحبنا ويحترمنا كبشر؛ إذ لا معنى للبقاء في، أو الانتماء إلى، بلاد تزدريك وتحرمك من ممارسة إنسانيتك.
امتدادًا للسؤال السابق ما مفهومك للهوية بناء على تجربتك؟ وهل ساعدتك الكتابة على فهم هذا الفاصل بين الـ«نحن»، والآخر؟
الهوية مفهوم مركب ومعقد، وهي العظم الذي تتكسر عليه الأسنان كما قال الشاعر الإسباني «أنطونيو ماتشادو». وتزداد تعقيدًا حين يغادر الإنسان بلاده وثقافته ويعيش في ثقافة أخرى.
خلال تلك الفترة تخضع الهوية لامتحانات عديدة، ومقارنات لا تنتهي. المرءُ لا يكتشف، ولا يعرف مَنْ هو إلا لدى الالتقاء بالآخر المختلف، الاختلاف يتيح له المقارنة، والمقارنة تفتح أمامه أبواب الأسئلة، والأسئلة ليست سهلة، وتتطلب إجابات، والإجابات تتطلب جرأة وشجاعة ليستْ في مقدور إلا من رحم ربي.
أيضًا الكتابة عن عالمك الجديد «لندن» جاءت متأخرة مقارنة بزمن القدوم، هل كان ذلك ضريبة سؤال داخلي في العودة إلى الكتابة من عدمها؟
التأخير فرضته ظروف النقلة المفاجئة من واقع أحادي راكد، وساكن وبلا هوامش، إلى واقع آخر منفتح ومتعدَّد وليبرالي، وبهوامش متسعة، هناك كذلك متطلبات حياتية ضرورية لا مناص منها، وهذه كلها لا تتيح أمام الكاتب فرصة للكتابة. لكن حين استقرتْ الأمور، وبدأتْ الحياة تأخذ إيقاعها الاعتيادي، عدتُ إلى الكتابة، وبشكل مختلف عن السابق؛ أي بروح جديدة، وتجربة جديدة، ولغة جديدة، وأسلوب جديد، يتسق والعالم الذي وجدتني فيه.
تواجه الكاتب ما يمكن تسميته بالعقدة السردية، كيف تتعامل مع هذا المطب؟
بالتأكيد، يحدث أحيانًا أن يجد الكاتب نفسه في )زنقة مسكرة، ما تخطمش(، وبالطبع لكل شيخ طريقة في التعامل مع ذلك المطب؛ أغلب الأحوال أتغاضى عن الأمر، وأشغل نفسي بأمور أخرى لفترة من الزمن تقصر أو تطول حسب الحالة.
تكتب المقالة وتمارس الكتابة السردية، أيهما أضاف للآخر، أو أيهما أضاف للآخر؟
جئتُ إلى القصة، والروايةِ من باب يختلف عن ذلك الذي دخلتُ منه إلى كتابة المقالة، القصةُ، والرواية شغفٌ بدأ يتملكني منذ مرحلة المراهقة تقريبًا، لكن كتابة المقالة دخلتْ عليَّ في مرحلة متأخرة من عمري، ووجدتني مضطرًا للتعامل معها.
أعتقد أن المقالةَ استفادتْ من تجربتي وخبرتي السردية في الكتابة الإبداعية، وليس العكس، أضف إلى ذلك أنني استفدتُ كثيرًا في تعلم فن كتابة المقالة من الكتَّاب البريطانيين، نتيجة اطلاعي اليومي، والمستمر على الصحف، وخاصة صفحات الرأي.