ثقافة

نبحث عن وطن يحترمنا إذ لا معنى للبقاء في بلد يزدريك

عبدالسلام الفقهي

 جمعة أبو كليب :

يقدم‭ ‬الروائي‭ ‬والكاتب‭ ‬جمعة‭ ‬أبو‭ ‬كليب‭ ‬سيرة‭ ‬الشخوص‭ ‬والأماكن‭ ‬عبر‭ ‬القصة،‭ ‬والرواية،‭ ‬وحتى‭ ‬المقالة،‭ ‬هو‭ ‬يحاول‭ ‬انطلاقًا‭ ‬من‭ ‬التجربة‭ ‬والقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬تتبع‭ ‬أبجديات‭ ‬الواقع‭ ‬الليبي،‭ ‬ونقده‭ ‬ثقافيا‭ ‬ونقل‭ ‬تجربته‭ ‬لدى‭ ‬الآخر‭ ‬الأوروبي‭ ‬الينا‭ ‬والعكس‭.‬

في‭ ‬هذا‭ ‬اللقاء‭ ‬القصير‭ ‬نتعرف‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬مساره‭ ‬السردي‭ ‬وأسئلته‭.‬

في‭ ‬كتاباتكَ‭ ‬من‭ ‬‮«‬قصص‭ ‬البر‭ ‬الإنجليزي‮»‬‭  ‬إلى‭ ‬‮«‬نهارات‭ ‬لندنية‮»‬‭ ‬نجد‭ ‬بحثًا‭ ‬دائًما‭ ‬عن‭ ‬صيغ‭ ‬سردية‭ ‬مختلفة،‭ ‬هل‭ ‬وصلتَ‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬الصيغة‭ ‬أم‭ ‬أنك‭ ‬من‭ ‬أنصار‭ ‬التجريب؟

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬الكاتب‭ ‬الإبداعي‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭ ‬عن‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬صيغ‭ ‬سردية‭ ‬مختلفة،‭ ‬أحيانًا‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الاستشكاف،‭ ‬أو‭ ‬التجريب،‭ ‬وأحيانًا‭ ‬أخرى‭ ‬تفرض‭ ‬القصة،‭ ‬أو‭ ‬الحكاية‭ ‬أسلوب‭ ‬سردها‭. ‬وقد‭ ‬يعني‭ ‬كذلك‭ ‬الهروب‭ ‬من‭  ‬ضجر‭ ‬الأسر‭ ‬في‭ ‬قالب‭ ‬واحد‭. ‬الحياة‭ ‬رحبة‭ ‬وفسيحة،‭ ‬والمرء‭ ‬لا‭ ‬يسبح‭ ‬في‭ ‬النهر‭ ‬نفسه‭ ‬مرتين‭.‬

في‭ ‬‮«‬نهارات‭ ‬لندنية‮»‬‭ ‬نرى‭ ‬شخوصًا‭ ‬ومصائر‭ ‬مختلفة،‭ ‬جميعها‭ ‬ترى‭  ‬الوطن‭ ‬والعودة‭ ‬إليه‭ ‬بشكل‭ ‬مختلف،‭ ‬وكأنكَ‭ ‬تحوَّل‭ ‬المفهوم‭ ‬التقليدي‭ ‬إلى‭ ‬صيغة‭ ‬‮«‬كوزموبوليتية‮»‬‭.‬

في‭ ‬‮«‬نهارات‭ ‬لندنية‮»‬‭ ‬ثيمتا‭ ‬الوطن‭ ‬والغربة‭ ‬أساسيان؛‭ ‬في‭ ‬الغربة‭ ‬يكتشف‭ ‬المرءُ‭ ‬أشياءً‭ ‬جديدة،‭ ‬وعديدة،‭ ‬ويتسع‭ ‬أفقه‭ ‬ومداركه،‭ ‬وتتعدد‭ ‬وسائل‭ ‬اطلاعه،‭ ‬ويتعلم‭ ‬العيشَ‭ ‬بسلام‭ ‬مع‭ ‬ثقافة‭ ‬مختلفة،‭ ‬ولسان‭ ‬مختلف،‭ ‬ومع‭ ‬آخرين‭ ‬مختلفين‭. ‬الوطن‭ ‬بصفة‭ ‬خاصة‭ ‬سؤال‭ ‬مشوك‭ ‬في‭ ‬ذهن‭ ‬الغريب‭ ‬والمنفي‭ ‬لا‭ ‬يغادره،‭ ‬خصوصًا‭ ‬إذا‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬مغادرته‭ ‬لبلاده‭ ‬طوعية‭ ‬بل‭ ‬جاءت‭ ‬نتيجة‭ ‬ظروف‭ ‬سياسية،‭ ‬أو‭ ‬اقتصادية‭. ‬وشخصيات‭ ‬الرواية‭ ‬يتطرقون‭ ‬لسؤال‭ ‬الوطن،‭ ‬كل‭ ‬واحد‭ ‬منهم‭ ‬يراه‭ ‬من‭ ‬زاويته‭ ‬الخاصة‭ ‬الناجمة‭ ‬عن‭ ‬تجربته‭ ‬الشخصية‭ ‬في‭ ‬الوطن،‭ ‬وفي‭ ‬المنفى‭.‬

نحن‭ ‬في‭ ‬الحقيقة‭ ‬نبحث‭ ‬عن‭ ‬وطن‭ ‬يحبنا‭ ‬ويحترمنا‭ ‬كبشر؛‭ ‬إذ‭ ‬لا‭ ‬معنى‭ ‬للبقاء‭ ‬في،‭ ‬أو‭ ‬الانتماء‭ ‬إلى،‭ ‬بلاد‭ ‬تزدريك‭ ‬وتحرمك‭ ‬من‭ ‬ممارسة‭ ‬إنسانيتك‭.‬

امتدادًا‭ ‬للسؤال‭ ‬السابق‭ ‬ما‭ ‬مفهومك‭ ‬للهوية‭ ‬بناء‭ ‬على‭ ‬تجربتك؟‭ ‬وهل‭ ‬ساعدتك‭ ‬الكتابة‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬هذا‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬الـ«نحن‮»‬،‭ ‬والآخر؟

الهوية‭ ‬مفهوم‭ ‬مركب‭ ‬ومعقد،‭ ‬وهي‭ ‬العظم‭ ‬الذي‭ ‬تتكسر‭ ‬عليه‭ ‬الأسنان‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬الشاعر‭ ‬الإسباني‭ ‬‮«‬أنطونيو‭ ‬ماتشادو‮»‬‭. ‬وتزداد‭ ‬تعقيدًا‭ ‬حين‭ ‬يغادر‭ ‬الإنسان‭ ‬بلاده‭ ‬وثقافته‭ ‬ويعيش‭ ‬في‭ ‬ثقافة‭ ‬أخرى‭.‬

خلال‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬تخضع‭ ‬الهوية‭ ‬لامتحانات‭ ‬عديدة،‭ ‬ومقارنات‭ ‬لا‭ ‬تنتهي‭. ‬المرءُ‭ ‬لا‭ ‬يكتشف،‭ ‬ولا‭ ‬يعرف‭ ‬مَنْ‭ ‬هو‭ ‬إلا‭ ‬لدى‭ ‬الالتقاء‭ ‬بالآخر‭ ‬المختلف،‭ ‬الاختلاف‭ ‬يتيح‭ ‬له‭ ‬المقارنة،‭ ‬والمقارنة‭ ‬تفتح‭ ‬أمامه‭ ‬أبواب‭ ‬الأسئلة،‭ ‬والأسئلة‭ ‬ليست‭ ‬سهلة،‭ ‬وتتطلب‭ ‬إجابات،‭ ‬والإجابات‭ ‬تتطلب‭ ‬جرأة‭ ‬وشجاعة‭ ‬ليستْ‭ ‬في‭ ‬مقدور‭ ‬إلا‭ ‬من‭ ‬رحم‭ ‬ربي‭. ‬

أيضًا‭ ‬الكتابة‭ ‬عن‭ ‬عالمك‭ ‬الجديد‭ ‬‮«‬لندن‮»‬‭ ‬جاءت‭ ‬متأخرة‭ ‬مقارنة‭ ‬بزمن‭ ‬القدوم،‭ ‬هل‭ ‬كان‭ ‬ذلك‭ ‬ضريبة‭ ‬سؤال‭ ‬داخلي‭ ‬في‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة‭ ‬من‭ ‬عدمها؟

التأخير‭ ‬فرضته‭ ‬ظروف‭ ‬النقلة‭ ‬المفاجئة‭ ‬من‭ ‬واقع‭ ‬أحادي‭ ‬راكد،‭ ‬وساكن‭ ‬وبلا‭ ‬هوامش،‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬آخر‭ ‬منفتح‭ ‬ومتعدَّد‭ ‬وليبرالي،‭ ‬وبهوامش‭ ‬متسعة،‭ ‬هناك‭ ‬كذلك‭ ‬متطلبات‭ ‬حياتية‭ ‬ضرورية‭ ‬لا‭ ‬مناص‭ ‬منها،‭ ‬وهذه‭ ‬كلها‭ ‬لا‭ ‬تتيح‭ ‬أمام‭ ‬الكاتب‭ ‬فرصة‭ ‬للكتابة‭. ‬لكن‭ ‬حين‭ ‬استقرتْ‭ ‬الأمور،‭ ‬وبدأتْ‭ ‬الحياة‭ ‬تأخذ‭ ‬إيقاعها‭ ‬الاعتيادي،‭ ‬عدتُ‭ ‬إلى‭ ‬الكتابة،‭ ‬وبشكل‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬السابق؛‭ ‬أي‭ ‬بروح‭ ‬جديدة،‭ ‬وتجربة‭ ‬جديدة،‭ ‬ولغة‭ ‬جديدة،‭ ‬وأسلوب‭ ‬جديد،‭ ‬يتسق‭ ‬والعالم‭ ‬الذي‭ ‬وجدتني‭ ‬فيه‭.‬

تواجه‭ ‬الكاتب‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬تسميته‭ ‬بالعقدة‭ ‬السردية،‭ ‬كيف‭ ‬تتعامل‭ ‬مع‭ ‬هذا‭ ‬المطب؟‭ ‬

بالتأكيد،‭ ‬يحدث‭ ‬أحيانًا‭ ‬أن‭ ‬يجد‭ ‬الكاتب‭ ‬نفسه‭ ‬في‭ )‬زنقة‭ ‬مسكرة،‭ ‬ما‭ ‬تخطمش‭(‬،‭ ‬وبالطبع‭ ‬لكل‭ ‬شيخ‭ ‬طريقة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬المطب؛‭ ‬أغلب‭ ‬الأحوال‭ ‬أتغاضى‭ ‬عن‭ ‬الأمر،‭ ‬وأشغل‭ ‬نفسي‭ ‬بأمور‭ ‬أخرى‭ ‬لفترة‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬تقصر‭ ‬أو‭ ‬تطول‭ ‬حسب‭ ‬الحالة‭.‬

تكتب‭ ‬المقالة‭ ‬وتمارس‭ ‬الكتابة‭ ‬السردية،‭ ‬أيهما‭ ‬أضاف‭ ‬للآخر،‭ ‬أو‭ ‬أيهما‭ ‬أضاف‭ ‬للآخر؟

جئتُ‭ ‬إلى‭ ‬القصة،‭ ‬والروايةِ‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬يختلف‭ ‬عن‭ ‬ذلك‭ ‬الذي‭ ‬دخلتُ‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬المقالة،‭ ‬القصةُ،‭ ‬والرواية‭ ‬شغفٌ‭ ‬بدأ‭ ‬يتملكني‭ ‬منذ‭ ‬مرحلة‭ ‬المراهقة‭ ‬تقريبًا،‭ ‬لكن‭ ‬كتابة‭ ‬المقالة‭ ‬دخلتْ‭ ‬عليَّ‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬متأخرة‭ ‬من‭ ‬عمري،‭ ‬ووجدتني‭ ‬مضطرًا‭ ‬للتعامل‭ ‬معها‭.‬

أعتقد‭ ‬أن‭ ‬المقالةَ‭ ‬استفادتْ‭ ‬من‭ ‬تجربتي‭ ‬وخبرتي‭ ‬السردية‭ ‬في‭ ‬الكتابة‭ ‬الإبداعية،‭ ‬وليس‭ ‬العكس،‭ ‬أضف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬استفدتُ‭ ‬كثيرًا‭ ‬في‭ ‬تعلم‭ ‬فن‭ ‬كتابة‭ ‬المقالة‭ ‬من‭ ‬الكتَّاب‭ ‬البريطانيين،‭ ‬نتيجة‭ ‬اطلاعي‭ ‬اليومي،‭  ‬والمستمر‭ ‬على‭ ‬الصحف،‭ ‬وخاصة‭ ‬صفحات‭ ‬الرأي‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى