على صفيح القلق الذي تمر به ليبيا، يتوق الليبيون لحالة الاستقرار خصوصًا وقد سئموا المراحل الانتقالية، لكن التخلص منها يتوقف على انجاز الاستحقاق الدستوري؛ الجنين الذي لم يكتب له رؤية النَّور.
لذا كان الحوار مع د. الهادي أبوحمرة عضو هيئة صياغة الدستور لنسأله عن المراحل التي مرتْ بها مسودة الدستور، والعراقيل والاشكاليات التي اعترضتْ عمل اللجنة أثناء العمل على المسودة والقوة القاهرة التي عطلتْ مسار الاستفتاء .
يجيب د. الهادي عن سؤالنا بخصوص تكوين لجنة صياغة الدستور بالقول :
تكونتْ اللجنة بالانتخاب السري المباشر سنة 2013 بعد مخاض في المجلس الانتقالي بين رأيين : هل اللجنة تتم عن طريق التعيين أم الانتخاب؟، والسبب أن عديد التيارات في ليبيا طالبتْ بالتمثيل، ورأتْ أن تضمن التعيين بالانتخاب لكن عن طريق الجسم التشريعي.
هل لكَ أن تعطينا مثالًا على أحد هذه التيارات؟.
التيار الفيدرالي على سبيل المثال طالب أن تتشكل اللجنة عن طريق الانتخاب السري المباشر، وأن تشكل بالتساوي بين المناطق الانتخابية التاريخية الثلاث )طرابلس، برقة، فزان( على غرار ما تم في الجمعية التأسيسية سنة 1951، وهو ما تم بالفعل حيث تكونت اللجنة التأسيسية على النمط ذاته، إضافة أنه في سنة 1951تم اختيار أعضاء الجمعية عن طريق التعيين لا الانتخاب، ولم يتم عرضها على الاستفتاء، وما يميز الهيئة التأسيسية الحالية تضمينها للإرادة الشعبية من ناحيتين.
الأولى بالانتخاب السري المباشر، والثانية أنها لا تنتج دستورًا، وإنما مشروع دستور يُعرض على الشعب الليبي، وبالفعل تشكلتْ الهيئة التأسيسية وفقًا لهذا التوجه .
يواصل د.الهادي : الملاحظة أن الأخوة الأمازيغ اعترضوا على العملية بالكامل، وطالبوا ألا تتم بهذه الطريقة، أي أن يكون لهم وضعٌ مميزٌ داخل الهيئة التأسيسية بشأن الحقوق الثقافية واللغوية.
كيف يمكن تلخيص رؤية المكون الأمازيغي؟
عمومًا أنا لستُ بصدَّد التعبير عنهم لكن أضعكَ في صورة ما حدث، وهو عندما يتعلق الأمر بالحقوق السياسية، واللغوية يجب ألا تطرح بالتصويت على الاستفتاء بالأغلبية لأنها حقوق مكونات ثقافية؛ وبالتالي أي دستور يجب أن يُبنى على هذا التوازن، وبالفعل فإن الإعلان الدستوري نص أن أعضاء المكونات بالهيئة التأسيسية يجب التوافق معهم بشأن الحقوق الثقافية واللغوية، بمعنى كل المسائل الأخرى تطرح على أغلبية الثلثين باستثناء الحقوق اللغوية، والثقافية .. في العموم تشكلتْ الهيئة التأسيسية من المناطق الانتخابية الثلاث، وانجزت الانتخابات في أغلب الدوائر، حتى إن كان هناك نقصٌ في الهيئة التأسيسية إلا أنه تكامل مع الوقت، فقط أود القول إنّ الأخوة الأمازيغ في الهيئة التأسيسية قاطعوا العملية الانتخابية، ولأن العملية الانتخابية حقٌ، وليستْ واجبًا وبالتالي لا تمنع المقاطعة من تكوين الهيئة التأسيسية، والمضي في إنتاج مشروع الدستور خاصة وأنها كما ذكرنا لا تنتج دستورًا، وإنما مشروع دستور يعرض على الاستفتاء.
نتوقف عند مسألة التوافق التي أشرتْ إليها في حديثكَ عن الأقلياتِ ؟
ترتكزُ على أنّ الانتخاب هو حقٌ للمواطن، ولا يمكن لمنطقة «ما» أن تعطل العملية الانتخابية بالكامل، بإمكانها أن تشارك، أو لا، والإعلان الدستوري في النهاية يكفل لها حق المشاركة. والأمرُ الآخر أنه رغم وجود الأمازيغ في الهيئة الـتأسيسية إلا أنها تواصلتْ مع الأمازيغ في كل مدنهم، وتعتقد أنها أنتجتْ صيغة توافقية مناسبة فيما يتعلق باللغات «الأمازيغية، والتارقية والتباوية»، وكان آخر اجتماع مع المكون الأمازيغي في مدينة يفرن الذي ضم عمداء البلديات الأمازيغية، والأعيان.
مراحل مشروع الدستور .. أولاً صدرتْ مسودات للجان العمل، وعرضتْ على الشعب الليبي واستقبلتْ الهيئة آراء الليبيين من مواطنين ومنظمات مجتمع مدني، وهيئات رسمية وأصدرتَْ بعد تنقيح هذه المسودات مشروع الدستور سنة 2016، طُعِنَ فيه أمام القضاء وتداركتْ الهيئة المسألة، وأعادت النظر في المشروع من جديد، وشكلت لجنة اسمتها «لجنة التوافقات»، التي بدورها جمعت المناطق الانتخابية الثلاث، والمكونات بالهيئة التأسيسية وأصدرت بعد العرض على الهيئة التأسيسية في جلسة عامة مشروع الدستور في 29يوليو 2017.
ماهي الملاحظات التي تركزتْ فيها الطعون؟
من ضمنها أن اللائحة التنفيذية يجب أن تتوافق مع الإعلان الدستوري، وأن النصاب لم يكن متحققًا، وأن مشروع الدستور تم تبنيه بنصاب أقل من الثلثين لأن الإعلان الدستوري يشترط في اقرار مشروع الدستور على ثلثين وهذا ما تم فعلاً في 29يوليو 2017 حيث تم اقرار مشروع الدستور بأغلبية تفوق الثلثين أي 43 صوتًا، أيضًا ما نسميه أغلبية مزدوجة وهي على مستوى أعضاء الهيئة التأسيسية، وأغلبية في كل منطقة انتخابية )طرابلس، برقة، فزان( .
خلال عمل الهيئة التأسيسية حدث نقاشٌ وجدلٌ حول عدة مسائل منها تكوين السلطة التشريعية أي كيف يتم اختيارها بناءً على عدد السكان، أم وفق المناطق الانتخابية؟، وهنا تمت المجاوزة بين المعيارين ممثلاً في مجلس النَّواب ومجلس الشيوخ، أي اعتماد معيار السكان إضافة للمعيار الجغرافي، أي أننا لا يمكن أن نعتمد على عدد السكان فقط ولا الجغرافي فقط، فلو اعتمدنا على الأول وهو «المواطنة» ستنتج سلطة تشريعية من المدن الكبرى فقط وتهمش بالتالي باقي القرى، والمناطق الصغرى، ولو اعتمدنا على الجغرافي فقط يصبح هناك خللٌ في التوازن إذ لا يمكن أن تعطي لمدينة مثل «غات» نفس وزن «طرابلس»، أو «غدامس» نفس وزن «بنغازي»، وبالتالي كان المعيار السكاني ممثلاً لمجلس النَّواب، ومجلس الشيوخ ممثلاً لمعيار الجغرافيا.
المسألة الثانية كانتْ في انتخاب الرئيس حيث تولَّد في الهيئة اتجاهان، الأول يقول بانتخاب عام سري ومباشر للرئيس، والثاني يقول إذا انتخبنا رئيسًا بالأغلبية يترتب عليه أن المدن الكبرى ستكون العنصر الحاسم في اختيار الرئيس، وبالتالي يصبح مفتاح الرئيس في المنطقة الغربية باعتبارها أكثر كثافة سكانية من الجنوب، والشرق، وبالتالي اتجهنا إلى معادلة وهي تطبيق الانتخاب العام السري المباشر لرئيس الدولة، وفي الوقت نفسه إعطاء دور في انتخاب الرئيس لجميع المناطق أي نشترط في الأغلبية وهي )50+1(؛ لكن يجب أن يتحصل على نسبة يقرها القانون في المناطق الأخرى؛ فمن غير المنطقي أن يتحصل الرئيس على )صفر( في بنغازي، ويصبح رئيس دولة، أي يجب أن يتحصل على نسبة في طبرق، والجغبوب، وسبها ودرنة الخ .. وهنا تجبر الرئيس في العملية الانتخابية على محاولته نيل الرضا في جميع المناطق. الأمر الآخر الرئيس إذا كان في نيته تجديد الدورة الرئاسية؛ فجدارته تتوقف على جهوده في عملية التنمية على مستوى ليبيا .
جدل العاصمة
المسألة الثالثة في جدول مناقشات الهيئة كانت تسمية )العاصمة(، هل «طرابلس» هي العاصمة الوحيدة أم لا ؟، وهي ليست جديدة فقد أثيرتْ في الجمعية التأسيسية سنة 1951 وكان الحل في المادة)188(من دستور 1951 أن للمملكة الليبية عاصمتين )طرابلس، بنغازي(، وكان الحل أن تكون «طرابلس» هي العاصمة السياسية، و«بنغازي» العاصمة التشريعية، أي أن يكون في طرابلس السلطة التنفيذية ومقر السفارات ويكون في بنغازي مقر مجلس النَّواب، ومجلس الشيوخ؛ إضافة إلى أن تكون «سبها» مقرًا للمحكمة الدستورية، وبذا كان هذا الحل الذي انتهتْ إليه الهيئة التأسيسية بأغلبية معزَّزة .
من المهم أن أشير إلى مسألة ما هو شكل الحكم في الدولة، )فيدرالية، أم بسيطة( وهذا كان سؤالًا مركزيًا ورئيسًا، وكان اتجاه الفيدراليون إلى دولة ذات طابع فيدرالي، واتجاه آخر لدولة بسيطة، فكانت الموازنة في دولة بسيطة ذات حكم محلي قائم على اللا مركزية الموسعة، أي وكأنك تنتقل من فيدرالية الولايات الثلاث إلى فيدرالية البلديات، بحيث يكون للبلدية ذمةٌ مالية ولا مركزية قائمة على مبدأ التدويل الحر أي اشتراطات اللامركزية الحديثة تم تضمينها في البند المتعلق بشكل الحكم .
أثيرتْ تساؤلات حول «العَلَمُ»، ونعرف جميعًا أنّ «العَلَمَ» الموجودُ هو علم الاستقلال 1951، ونتيجة للتجاذبات السياسية في ليبيا اعترضتْ بعض الأطراف، فكيف تم الحل التوافقي؟.
بعد جدلٍ، ومشاوراتٍ داخل الهيئة التأسيسية توافقتْ الآراء على بقاء العلم الحالي، لكن بالإمكان تبني «علم» آخر بأغلبية ثلثي مجلس النَّواب .
كذلك تناولنا نص الشريعة الإسلامية وتوصلنا إلى صيغة تنص على مصدرية التشريع للشريعة الإسلامية مع حفظ الحقوق والحريات، أي لا نستخدم الاجتهادات الفقهية لاستبعاد الحقوق والحريات، ولا نسمح للحقوق والحريات أن تنتهك الركائز، والثوابت للشريعة الإسلامية .
ماذا عن حقوق المرأة ؟
بالتأكيدِ لها تمثيلٌ في السلطة التشريعية والنَّص لا يمنع ترشحها للانتخابات الرئاسية والبرلمانية .
أيًضا ما يتعلق بحرية الإعلام، والصحافة ؟
كان لنا عدة مداخل، وهو أن في مشروع الدستور يوجد نصٌ يقول : إنَّ الاتفاقيات الدولية أعلى مرتبة من القانون، وأدنى مرتبة من الدستور، ويجب على الدولة اتخاذ كافة التدابير اللازمة لإنفاذها، معنى ذلك أن الدولة الليبية كل الاتفاقيات الدولية التي صادقتْ عليها وفق الإعلان الدستوري ملزمة بإنفاذها وإدخالها في التشريع , كذلك نص على حرية المعلومات، والقيود عليها تتعلق بالحياة الخاصة، أو إدارة العدالة، والأمن القومي، أيضًا نص مشروع الدستور على حرية الصحافة، والإعلام والتعدَّدية، والحق في ملكيتها وعدم إيقافها إلا بأمر قضائي، وبالمقارنة مع الدساتير الأخرى نجد أغلب الضمانات المقرة في حرية الإعلام، والمعلومات، والصحافة تم تضمينها في مشروع الدستور.
ما بعد الانتهاء من المسودة لماذا لم تكتمل مسيرة الاستحقاق؟.
أولاً كل متطلبات الاستفتاء قائمة، أي تم إقرار مشروع الدستور بأغلبية موصوفة داخل الهيئة التأسيسية، كذلك تم إصدار قانون الاستفتاء وأقره مجلس الدولة أيضًا، أي كل العناصر المطلوبة للاستفتاء متوفرة، والاستفتاء حق لكل مواطن الذي عرقل عملية الاستفتاء أن المفوضية لم تنفذ قانون الاستفتاء باعتبارها هيئة تنفيذية وليست تشريعية، وما عرقل الاستحقاق أيضًا هو المجتمع الدولي بأكثر من طرح بديل وادخل ليبيا في متاهة التوافقات السياسية،ولا ننسى أن مشروع الدستور يتعارض مع قوة واقعية قائمة وهذه القوة لا ترغب في قيام دولة مؤسسات. فلو أقر مشروع الدستور فذلك يعد صك وفاة لكل الأجسام القائمة، ناهيك عن وجود أطراف فاعلة لن تجد مصلحتها في مشروع الدستور فمثلا مشروع الدستور يحظر على مزدوجي الجنسية تولي المناصب السيادية، ونعرف أن الكثير من مزدوجي الجنسية متنفذون في الدولة الليبية، ونعرف أيضًا أنّ مشروع الدستور يمنع ترشح العسكريين، وهذا أمرٌ منطقي فالعسكري عليه التخلي عن صفته العسكرية إذا ما رغب خوض العملية الانتخابية، لأن نظام الدولة المدنية التي تبناها مشروع الدستور يتنافى مع ترشح العسكريين.
نتحدث عن أربع سنوات من مسودة مشروع الدستور، هل لازالت هذه المسودة صالحة للاستفتاء ؟!.
في رأيي الشخصي لو عُرِضَ الدستورُ على الاستفتاء سيمر بسهولة وبنسبة قبول عالية بسبب أنه مشروع متوازن، وقائم على طبيعة المجتمع الليبي، وليس على المتغيرات السياسية وهو ليس نصًا قانونيًا يتغير بتغير الأحداث لكنه نصٌ دستوري أُعِدَتْ صياغته ليعيش اطول فترة ممكنة من الزمن .