للألوانِ سحرٌ لا يقاوم، ولكل إنسان لونه المفضل تقريباً، ويمكن للإنسان أن يجوع للألوان تمامًا مثل ما يجوع حين لا يأكل لوقت طويل، وأتصور أن النظر إلى الألوان يعمل على توازن الشخصية بالإضافة إلى احتياجاتها الأخرى بطبيعة الحال، وعلى كل حال لا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا ألوان لأن حاجته للألوان كحاجته إلى الأكل والشُرب، ولا نبالغ إن قلنا كحاجته للتنفس، وعلاوة على إشباع حاجاته الجمالية من خلال الألوان، وبالألوان فإنهُ يحتاجها للتعبير عن ذاته وتمييزها عن الآخرين، ذلك أن الألوان أداة تعبير رمزية ولكل لون إحالات وإشارات ورموز معينة تختلف من إنسان إلى إنسان ومن مجتمع إلى مجتمع وحتى من قبيلة إلى قبيلة، فاللون الأبيض الذي يرمز للفرح في ثقافة معينة قد يرمز إلى الحزن في ثقافة أخرى، وهكذا فيما يخص كل الألوان، ومن العادي والمتعارف عليه في الأحوال العادية، أن يحيل اللون الأحمر إلى الدم والحروب والشهادة والتضحية والفداء فيما يرمز اللون الأخضر على سبيل المثال إلى النماء والخضرة والخصب والوفرة، كما يرمز اللون الأسود للظلام والليل والجهل والظلم وللتآمر وبعكسه كلياً يشير اللون الأبيض إلى الصفاء والنقاء والسلام والحرية والنور والعلم على سبيل التمثيل لا الحصر، وهكذا مع اللون البني الذي يشير إلى الطين والأرض والحياة البسيطة والأزرق أو السماوي إلى الاتساع والرحابة والعلو ، وهذا هو الحال مع بقية الألوان إذ لا بد من أن نجد معادلاً رمزيًا لكل لون ما أن نتمعن في ذراته ونربطها بالواقع وبالحياة.
وأينما تلفت الإنسان اليوم يجد الالوان، في الطبيعة من حوله وفي ما أنتجته الحضارة المعاصرة.والمطلوب هو أن يتعاطى الإنسان مع الألوان بوعي – أي أن يتذوق جمالها واعياً ويدرك ذلك – ولا يمر عليها مرور الكرام متى ما صادفتهُ حتى يُشبع حاجته منها ويسد نقصًا في شخصيته، فالألوان كما الفيتامينات التي يحتاجها الجسم، الألوان فيتامين معنوي تحتاجه الروح، ومع تطور الفنون اليوم واختراع خامات جديدة وطيعة يمكن للفنانين لا سيما الأنطباعيون منهم، الحصول على ألوان مختلفة وغير مُكتشفة كل مرة يرسمون فيها، من خلال خلط الألوان ببعضها البعض ومزجها بنسب محددة وبعشوائية أحيانًا على السطح مباشرة بالأصابع، أو على لوح خلط الألوان «الباليتة» بعملية تحتاج إلى الكثير من الجرأة والشجاعة، والنتيجة، لوحة انطباعية أو تجريدية تنطوي على خصوصيتها الفنية والجمالية واللونية وأحيانًا إشراقتها الحصرية .
وتفطن الإنسان إلى أهمية الألوان منذ أن استقر فوق الأرض واستعملها في حياته اليومية في ما يلبسه وفي ما يستعمله من أدوات بعد أن استخرجها وقام بتحضيرها مما هو متوفرٌ له من صبغات حجرية ونباتية، وبعض هذه الألوان ما تحدى الزمن ووصل إلينا طازجا من ما رسمه الإنسان في المعابد الفرعونية وفي جداريات الكهوف، ومنذ ان بدا الإنسان الرسم كانت الألوان – كل الألوان – ترافقه في رحلته الإبداعية، إلا أن مع اختراع وسائط ومواد مختلفة مثل : الرصاص والفحم أتجه الرسامون إلى إنتاج لوحات بهاتين المادتين بالإضافة إلى استخدامهما لوضع الرسومات الأولية أو الأسكتشات ولوضع الخطوط الأولية للوحات الزيتية. سوى أن هاتين الخامتين تمتلكان من التأثير ما يجعل منهما مواد مستقلة قادرة من خلال الفنان على إنجاز لوحات مكتملة شأنها في ذلك شأن المواد الأخرى كالزيتية والمائية بنوعيها الشفافة والثقيلة المكثفة .
وفي الجانب التطبيقي من هذه الإطلالة وعند الحديث عن الأعمال المُنجزة بالأبيض والأسود لا بد من الإشارة إلى ما رسمه كبار الفنانين وعلى رأسهم «بيكاسو» بلوحته الشهيرة )الجورنيكا( التي اختار لها هذين اللونين فقط وفي ذلك دلالة واضحة على الحزن سيما وأن اللوحة تجسد الحرب وأهوالها .
لوحات عديدة وتخطيطات وضعها الفنانون بالأبيض والأسود، ويُخطئ البعض فيسمي لوحات أو صور الأبيض والأسود بدون ألوان، بينما هما يتربعان على عرش الألوان وفيهما تنصهر كل الألوان باردها وحارِّها ودافئها والمتوهج منها والمحايد .
وفيما يتعلق بالتشكيل الليبي، قليلون هم الفنانون الذين أنتجوا أعمالاً بالأبيض والأسود إذ فضّل الكثير منهم استعمال الألوان كافة، فيما زاوج البعض الآخر ما بين استعمال الأبيض والأسود، واستعمال الألوان الطبيعية كافة، فهذا الفنان أحمد غماري المتخصص تقريبًا في الإنتاج بالأبيض والأسود يستثمره كمادة تعطي التأثير والواقعية المطلوبة لرسم بورتريهات بأقلام الرصاص والفحم وألوان الأكريليك.
يُذكر أن اللونين الأبيض والأسود يلائمان تمامًا رسم البورتريهات ويعطيان مع بعضهما البعض نتائج قد تعجز عن تقديمها الألوان الطبيعية من ناحية الجماليات والخصائص الفنية وفي حالة الرسم بالأقلام قد لا يستعمل الفنان اللون الأبيض الذي يمثل الضوء لأنه يحصل عليه من بياض الورقة ويتحكم فيه من خلال تدرج اللون الأسود فوق سطحها .
أيضًا الأبيض والأسود مادة تلائم وتطاوع الفنان صلاح غيث الذي رسم وبطريقته الجريئة وخطوطه الواثقة لوحات كثيرة بأقلام الرصاص هي عبارة عن وجوه تقع في محيطه الحياتي ومشاهد متكاملة يتخذ فيها الجسد الإنساني أوضاعًا مختلفة تظهر جمالياته العفوية التي استطاع الفنان بنظرته الثاقبة التقاطها وتثبيتها على الورق .
بينما وبواقعية قصوى ومفرطة قد تتجاوز الكاميرا بمراحل أنجز الفنان عبدالرزاق الرياني لوحات بخامة الفحم أيضًا اهتم فيها بالوجوه خاصةً وبالأزياء وبالطفولة .
ولدى الفنان طارق الشبلي معالجات بالأبيض والأسود تمثلت في الرسم ببعض المواد السائلة والمخففة – زيتية أو اكريلك – لرسم الشخصيات .
أما الفنان جمعة الفزاني فقد رسم بالحبر الصيني الأسود على الأسطح البيضاء عدة بورتريهات بتقنية التنقيط بواقعيته المعهودة على ما في هذه الطريقة من مكابدة وعناء وصبر , إلا أن النتائج تكون مبهرة حين يعطيها الفنان حقها من المهارة والإتقان كما في حالة الفزاني .
وهذا الفنان جمال دعوب الذي اشتهر باستثمار الألوان الزيتية، والباستيل في رسوماته ينجز بورتريهات متقنة بالفحم .
وبشأن تجربتي المتواضعة والبسيطة رغم أنني لا أدعي انتمائي بالكامل لمدونة التشكيل الليبي فقد أنجزتُ أعمالاً بأقلام الرصاص، وبالفحم، وبأقلام الحبر الجاف السوداء إلى جانب استخدامي للمائية بطبيعة الحال، وفي كل ما أنتجت انتهجت المدرسة الواقعية وبشأن تقييم التجربة وتحديد اتجاهاتها أترك ذلك للمتلقي الذي أُعوَّل عليه كثيرًا بعد أن يشاهد عينةً من أعمالي مرفقة بهذه المقالة التي سأرفق بها كذلك نماذج من أعمال كل فنان تحدثت عنهُ فيها وسيجد القارئ اسم كل فنان مدرج تحت لوحته في المكان المخصص للتعليقات متمنيًا للجميع التوفيق.
وكما لاحظنا وفي حدود معرفتنا التي قد يشوبها النقصان لم نعثر على فنان ليبي أستغل الأبيض والأسود لأغراض تجريدية فيما عدا بعض الأعمال للفنان عمر جهان، فكل الذين رسموا بهذين اللونين رسموا بواقعية تميل إلى الإفراط وهذا يدل دلالة واضحة على أن هذا النَّوع من الألوان يناسب تمامًا الرسم الواقعي لا سيما البورتريهات .
ولا يخفى على المتأمل في اللوحات المستعمل فيها فقط لوني الأبيض والأسود الجماليات الخاصة التي تختزلها والناجمة في الأساس عن ذاك التناقض الصارخ ما بين اللونين وذلك التدرج المهيب للون الأسود ما بين الدكنة الشديدة والخفوت سواء في الأعمال التجريدية، أو التشخيصية، وذلك التباين ما بين الظل والضوء اللذين إذا ما اجتمعا في عمل فسيكون راقيًا وناجحًا، في هكذا لوحة ما ينقص من الأبيض يكمله الأسود والعكس صحيح.
وثمة من المتذوقين من يجد في هذا النَّوع ما لا يجده في أعمال الألوان الطبيعية، فمما لا شك فيه أن الأبيض والأسود ألوان تليق بتسجيل اللحظات القديمة المصورة والمرسومة، فاللونان المذكوران يعملان على استنهاض الحنين في نفس المتلقي ويضعانه في زمن الذكريات تمامًا إذا ما التقيا في صورة مثلا، أيضًا بمكنتهما صنع تأثير بتقشفهما ولكنه ثري بمعانيه وجمالياته وتأثيراته البصرية، كما للونين قدرة على استثارة الشجن وذاك الحزن النبيل وتحريك مسبباتهما في وجدان الرائي ولكل إنسان تقريبًا ذكريات ووقائع خاصة قد يثيرها ويهيجها رؤية الصور القديمة التي لم تدرك عصر الصورة الملونة بل أن البعض وبعد أن يلتقط صورة ملونة يعمد إلى تجريدها من كل الألوان والإبقاء فقط على الأبيض والأسود لغاية في نفسه لا يعلمها إلا هو وأتصور أن للأبيض والأسود طاقة شعرية تجتاح إشعاعاتها المتلقي حال رؤيته للصورة أو اللوحة، وهذا سببٌ من الأسباب العديدة التي تجعله متعلقًا بها.