ثقافة

الشعر بين إطار البيت والسطر الشعري

عادل الصاري

في‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وأثناء‭ ‬الجدل‭ ‬الذي‭ ‬عُني‭ ‬بقضايا‭ ‬الإطار‭ ‬الموسيقي‭ ‬للقصيدة‭ ‬العربية‭ ‬الحديثة‭ ‬ارتأى‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الشعراء‭ ‬والنقاد‭ ‬الحداثيين‭ ‬أن‭ ‬عروض‭ ‬الخليل‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬صالحًا‭ ‬للتعبير‭ ‬عن‭ ‬مضامين‭ ‬العصر‭ ‬الحديث،‭ ‬بحجة‭ ‬أنه‭ ‬إطار‭ ‬موسيقي‭ ‬جامد‭ ‬وصارم،‭ ‬كثيرا‭ ‬ما‭ ‬يدفع‭ ‬الشاعر‭ ‬دفعا‭ ‬إلى‭ ‬الحشو‭ ‬وتمطيط‭ ‬الكلام‭ ‬واجتلاب‭ ‬القافية‭ ‬لأجل‭ ‬إتمام‭ ‬البيت‭.‬

والواقع‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحكم‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تعميمه‭ ‬على‭ ‬مدونة‭ ‬الشعر‭ ‬العربي،‭ ‬ولا‭ ‬يصحُّ‭ ‬اتخاذه‭ ‬دليلاً‭ ‬للحكم‭ ‬على‭ ‬انتهاء‭ ‬صلاحية‭ ‬العروض،‭ ‬ثم‭ ‬إن‭ ‬النتاج‭ ‬الشعري‭ ‬الحديث‭ ‬يؤكد‭ ‬أن‭ ‬شعراء‭ ‬مثل‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬وسليمان‭ ‬العيسى،‭ ‬ومحمد‭ ‬الفيتوري،‭ ‬ومحمود‭ ‬درويش،‭ ‬وسميح‭ ‬القاسم‭ ‬استخدموا‭ ‬الإطارين‭ ‬معا،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬الزعم‭ ‬بأنهم‭ ‬برعوا‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬ذواتهم‭ ‬وعن‭ ‬مضامين‭ ‬عصرهم‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬السطر‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬برعوا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬البيت،‭ ‬ومن‭ ‬الممكن‭ ‬التدليل‭ ‬على‭ ‬فساد‭ ‬هذا‭ ‬الزعم‭ ‬بإيراد‭ ‬مقطعين‭ ‬قصيرين‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬نزار‭ ‬قباني،‭ ‬متفقيْن‭ ‬في‭ ‬الموضوع‭ ‬ومختلفيْن‭ ‬في‭ ‬الوزن‭ ‬والإطار‭ ‬الموسيقي‭:‬

النص‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ‬‮«‬إفادة‭ ‬في‭ ‬محكمة‭ ‬الشعر‮»‬‭:‬

يا‭ ‬فلسـطينُ‭ ‬لا‭ ‬تزالينَ‭ ‬عطــشىَ

وعلى‭ ‬الــــزيتِ‭ ‬نامتْ‭ ‬الصحراءُ

العبــــاءاتُ‭ ‬كلـُّـها‭ ‬مـــــن‭ ‬حـــريـرٍ

والليــــــالي‭ ‬رخيـصــــةٌ‭ ‬حمـــــراءُ

يا‭ ‬فلسـطينُ‭ ‬لا‭ ‬تنــــادي‭ ‬عليـهمْ

قد‭ ‬تســـــاوىَ‭ ‬الأمواتُ‭ ‬والأحياءُ

قتل‭ ‬النفـط‭ ‬ُما‭ ‬بهم‭ ‬من‭ ‬سجــايـا

ولقـــــد‭ ‬يـقـتـــلُ‭ ‬الثـــــريَ‭ ‬الـــثـراءُ

النص‭ ‬الثاني‭ ‬من‭ ‬قصيدة‭ ( ‬الحب‭ ‬والبترول‭) :‬

تمرَّغْ‭ ‬يا‭ ‬أميرَ‭ ‬النفط‭ ‬،‭ ‬فوق‭ ‬وحولِ‭ ‬لذاتكْ

كممْسحةٍ‭ …. ‬تمرَّغْ‭ ‬في‭ ‬ضلالاتكْ

لك‭ ‬البترولْ‭ ‬فاعصرْه

على‭ ‬قدميْ‭ ‬خليلاتكْ

كهوفُ‭ ‬الليلِ‭ ‬في‭ ‬باريسَ‭ … ‬قد‭ ‬قتلتْ‭ ‬مروءاتكْ

على‭ ‬أقدامِ‭ ‬مومسةٍ‭ ‬هناكَ

دفنتَ‭ ‬ثاراتكْ

فبعتَ‭ ‬القدسَ‭ … ‬بعتَ‭ ‬اللهَ‭.. ‬بعتَ‭ ‬رمادَ‭ ‬أمواتكْ

النصان‭ ‬يصوران‭ ‬موقفا‭ ‬شعوريا‭ ‬واحدا‭ ‬لنزار‭ ‬قباني‭ ‬تجاه‭ ‬بعض‭ ‬مسؤولي‭ ‬وأثرياء‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬النفطية،‭ ‬بسبب‭ ‬تخليهم‭ ‬عن‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين،‭ ‬فهو‭ ‬يراهم‭ ‬فاسدين‭ ‬قد‭ ‬أبطرهم‭ ‬المال،‭ ‬وأمات‭ ‬فيهم‭ ‬خلق‭ ‬النخوة‭ ‬والتراحم‭ ‬مع‭ ‬إخوانهم‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الذين‭ ‬طالما‭ ‬استصرخوهم‭ ‬لإنقاذهم‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬المحتلين‭ ‬الصهاينة،‭ ‬لكنهم‭ ‬ظلوا‭ ‬مشغولين‭ ‬في‭ ‬إنفاق‭ ‬ثرواتهم‭ ‬الطائلة‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬الليالي‭ ‬الحمراء‭ ‬في‭ ‬علب‭ ‬الليل‭ ‬بأوروبا‭.‬

صاغ‭ ‬نزار‭ ‬هذا‭ ‬الموقف‭ ‬الشعوري‭ ‬في‭ ‬إطارين‭ ‬موسيقييْن‭ ‬مختلفين،‭ ‬ففي‭ ‬النص‭ ‬الأول‭ ‬صاغه‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬البيت‭ ‬الشعري،‭ ‬وهو‭ ‬إطار‭ ‬موسيقي‭ ‬جاهز‭ ‬يتميز‭ ‬بحسن‭ ‬التنسيق‭ ‬والتنظيم‭ : ‬شطران‭ ‬متساويان‭ ‬في‭ ‬عدد‭ ‬التفعيلات،‭ ‬ووزن‭ ‬ثنائي‭ ‬التفعيلة‭ ‬هو‭ ‬وزن‭ )‬الخفيف‭ ‬ـ‭ ‬فاعلاتن‭ ‬مستفعلن‭ ‬فاعلاتن‭(‬،‭ ‬وقافية‭ ‬موحدة،‭ ‬ورويَّ‭ ‬الهمزة‭ ‬المضمومة‭.‬

وفي‭ ‬النص‭ ‬الثاني‭ ‬صاغ‭ ‬نزار‭ ‬نفس‭ ‬الموقف‭ ‬الشعوري‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬السطر‭ ‬الشعري،‭ ‬وهو‭ ‬إطار‭ ‬موسيقي‭ ‬حر‭ ‬مفتوح،‭ ‬لم‭ ‬يتقيد‭ ‬فيه‭ ‬بعدد‭ ‬التفعيلات،‭ ‬لكنه‭ ‬تقيد‭ ‬بقافية‭ ‬واحدة‭ ‬ورويِّ‭ ‬الكاف‭ ‬الساكنة،‭ ‬وقد‭ ‬استخدم‭ ‬تفعيلة‭ ‬‮«‬مفاعلتن‮»‬‭ ‬صحيحة‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المواضع،‭ ‬وفي‭ ‬بعض‭ ‬المواضع‭ ‬الأُخر‭ ‬أدخل‭ ‬عليها‭ ‬زحاف‭ ‬العصب،‭ ‬وهو‭ ‬تسكين‭ ‬الحرف‭ ‬الخامس‭ ‬‮«‬اللام‮»‬‭ ‬من‭ ‬التفعيلة،‭ ‬فصارت‭ )‬مفاعيلن‭( .‬

وعندي‭ ‬أن‭ ‬الشاعر‭ ‬تمكَّن‭ ‬بيسر‭ ‬من‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬موقفه‭ ‬الشعوري‭ ‬في‭ ‬كلا‭ ‬الإطارين‭ ‬الموسيقيين،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬تضطره‭ ‬هندسة‭ ‬وإطار‭ ‬البيت‭ ‬إلى‭ ‬الحشو‭ ‬أو‭ ‬الإطناب،‭ ‬أو‭ ‬اصطناع‭ ‬قافية‭ ‬في‭ ‬غير‭ ‬موضعها،‭ ‬ودون‭ ‬أن‭ ‬تغريه‭ ‬حرية‭ ‬وانفتاح‭ ‬إطار‭ ‬السطر‭ ‬بتمطيط‭ ‬العبارة‭ ‬والثرثرة‭.‬

ونخلص‭ ‬إلى‭ ‬القول‭ ‬بإن‭ ‬الحشو‭ ‬وتمطيط‭ ‬الكلام‭ ‬في‭ ‬الشعر‭ ‬أمر‭ ‬نسبي،‭ ‬عادة‭ ‬ما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬القصائد‭ ‬الطويلة،‭ ‬وسببه‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬ضعف‭ ‬شاعرية‭ ‬الشاعر،‭ ‬ولا‭ ‬علاقة‭ ‬للإطار‭ ‬الموسيقي‭ ‬به‭.‬

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى