حين يشعر الناشئ من فتياننا برغبة في نظم الكلام موزونًا ومقفى، يبتدئ بمحاكاة غيره من الشعراء، فيقع فيما يسمى في الإصطلاح النقدي القديم بـ)الكذب الفني(، وهذا بلا شك أمر طبيعي ومفيد له.
وهو في بداية ارتباطه بالنظم عادة ما يتوهم أنّ لديه عشيقة يحبها، وتحبه، فتكون باكورة نتاجه الشعري قصيدة في الغزل والحب ، مع أنه لم يخضْ تجربة حب واحدة، وإن كان من ذوي اتجاه ديني فلا بد أن تكون أول شعره قصيدة في التصوف، أو في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، ثم بعد القصيدة الأولى توسوس له نفسه أنه حكيم زمانه، فيتصنع في شعره الحكمة، وضرب الأمثال ، وهو ربما لمَّا يتجاوز العشرين من عمره، ثم يواصل النظم على طريق من سبقوه، فينظم وهو الساكن في المدينة قصيدة يقف فيها باكيًا على أطلال ومضارب من رحلوا من الأحبة، وحين يجد التشجيع يبادر يمدح، أو هجو مَنْ يعرفه، أو مَنْ لا يعرفه إلا عن طريق السماع، أو القراءة.
إن تاريخ الشعر العربي يؤكد أن عددًا من الشعراء قلدوا في بداية ممارستهم للنظم مَنْ سبقوهم، ثم انفصلوا عنهم واستقلوا، لكن بعضهم ظل أسير التقليد واتباع المثال والأنموذج السابق، وأذكر من بين هؤلاء الشاعر محمود سامي البارودي المتوفَّىَ سنة 1904م، فقد كان وزير الحربية في مصر، وحارب الإنجليز بالبندقية، والمدفع، لكنه في بعض قصائده تقمص شخصية عنترة بن شداد، مفتخرًا بأنه هجم على أعدائه، ممتطيًا حصانًا قويًا، وصرع منهم المئات بالسيف والرمح والنشاب.
وبعض شعراء هذه الأيام من ساكني المدن يفتخرون في قصائدهم بالنجع والقبيلة وشيخها وبشجاعة فرسانها وبالإبل والخيام، وغيرها من مكونات بيئة مندثرة لم يعاصروها قَطُّ
د.عادل بشير الصاري