
كنا في زمن النقاء نجلس على مائدة الإفطار التي كانت تحضرها أمي رحمها الله، كان إفطارا صحيا ومفيدا، وكانت الجلسة مفعمة بالألفة، مليئة بالنصائح والتعليمات اليومية، وكانت أمي حريصة على ظهورنا بالمظهر اللائق دائما، وأيام الدراسة يكون الأمر أشبه بمعسكر إعداد تام، وخاصة في أيام الاختبارات، ويكون النوم والاستيقاظ باكرا، ولا نخرج الا بعد أن تطمئن علينا. وكانت من عاداتها في كل صباح فتح الجهاز المسموع )الراديو(، كنا نستمع إلى برامج الصباح التي كانت مميزة ورائعة، كانت الاذاعة تبث أغاني لازال وقعها كبيرا، ولازالت راسخة في ذاكرتنا، منذ زمن الطفولة البريئة، التي عشناها بكل تميز، من حيث المأكل والملبس، وعلاقتنا بالجيران، والاصدقاء، وحتى في الثقافة كان الأمر مختلف عما هو الأن، لازلت أذكر المكتبة التي اشتريت منها أول مجلة، وأول كتاب، كانت مكتبة الأستاذ جمال المحيشي رحمه الله، والتي كانت في شارع مصراتة بمدينة بنغازي، قبل أن تنتقل إلى شارع عمر المختار، كنت حريصا على متابعة وشراء المجلات الخاصة بالأطفال، بداية من مجلة الأمل الليبية التي كانت تشرف عليها ماما خديجة الجهمي رحمة الله عليها، ثم مجلة بساط الريح، وسلسلة العملاق، ومجلة سامر التي كانت تصدر من بيروت، .وغيرها المثير مما لايتسع المجال بذكره .
صور كثيرة جميلة لازالت مخزنة بذاكرتي، أصبحت أطلال من الماضي الجميل، الذي كانت فيه الثقافة والفن في بلادي، وفي كل الدول العربية لها معنى حقيقي، قبل أن يجتاحها طوفان الفساد والتخلف والتملق، ليلقي بظلاله على حال المواطن الأن وخاصة فئات الشباب، ولا اختلف مع أحد كونه أسلوب ممنهج ومتطور وتأثير دخيل سيطر على العقول وأوقفها.
من بين هذه الصور الجميلة أغنية خالدة تعتبر من أشهر كلاسيكيات الأغاني الليبية الرائعة، والتي لازالت تحتفظ بها الذاكرة الشعبية إلى يومنا هذا، عمل مميز من حيث اللحن والكلمة، كلمات جميلة نظمها الشاعر الليبي الراحل احمد الحريري رحمه الله، وأساغها لحنا الملحن الليبي عبد الباسط البدري، وتغنت بها فرقة ثلاثي المرح من مصر، وسجلت للإذاعة الليبية.
أغنية )يالعنب ويالعنب الله يبارك ع الدالية( من الأغاني الليبية الرائعة التي لازالت راسخة في ذاكرتنا بالرغم من مرور زمن طويل على إذاعتها، وكذلك أغاني رائعة أخرى لازلنا نستذكرها مثل أغنية يا بيت العيلة يا عالي للراحل محمود الشريف، وأغنية بين النخل والبير والزيتونة للفنان يوسف عزت، وأغنية فكرتينا يا زهرة الياسمين للفنان نوري كمال، وأغنية أنشد يا سيد الحلوين وأشغل فكرك مرة بينا للفنان سلام قدري، وأغنية نور عيون وأغنية مازال شاغلني وننشد عنه للفنان علي الشعالية، واغنية قلبي الي جفيته يعشم فيك للفنان السيد بومدين، وأغنية حبيب خاطري والقلب للفنان نوشي خليل، وأغنية مشيتي وين وأغنية القلب ما ينساكم للفنان محمد رشيد، أعمال خالدة رائعة كان يرددها السميعة من جيل الى جيل، وكلمات جميلة يتلقفها الشعراء كمداخل لأغانيهم.
في هذه الأغنية )يالعنب ويالعنب الله يبارك ع الدالية( أستعمل الشاعر الليبي المبدع الراحل احمد الحريري ارق الكلمات في التعبير عن ذكريات البيت الليبي الأصيل، وارتباط شجرة العنب مع الناس فترة ستينيات القرن الماضي الجميل، وقتها كان لا يخلوا بيت في مدن ليبيا خاصة في الحواضر الثلاث طرابلس وبنغازي ودرنة من وجود هذه الشجرة، واستعمل الموسيقار عبدالباسط البدري في اللحن كورال للأطفال لترديد اللازم، ليؤكد الربط مع جذور الاغنية الرائعة التي لا زالت تتناقل بين الأجيال من جيل الى جيل، بالرغم من التلوث الفني الذي نعيشه هذه السنوات بما يسمى أغاني دخيلة على مجتمعنا الأصيل، فمنذ متى كان شبابنا يهتم بالتلوث السمعي مثل شواذ Rap أو Hip Hop و Heavy metal وThrash وDeath، وهرطقات مطاعم الاسكندرية الهابطة، وهرطقات الإعلانات المصرية الرخيصة، ليصل بهم الحال الى هذا الانهيار لدرجة الحضيض.
ياه .. لقد تغير هذا الامر كثيرا الان، مع تغيير كل شيء، تغير شكل بناء ومعمار طراز البيت الليبي العريق الذي كانت تظلل فناءه دالية شجرة العنب الكبيرة الجميلة، تغيرت هذه الأشياء الجميلة إلى فوضى وعشوائيات واختناقات.
فرقة ثلاثي المرح التي غنت هذه الأغنية الرائعة هي فرقة غنائية مصرية شهيرة مكونة من ثلاث مغنيات، وفاء محمد مصطفى وصفاء يوسف لطفي وسناء الباروني )شقيقة الفنانة سهير الباروني( تخرجن من معهد الموسيقي العربية، وظهرن في خمسينيات القرن الماضي.
بدأت الفرقة في الظهور من خلال برامج الهواة التي كانت تقدمها الإذاعة المصرية آنذاك لتقديم الأصوات الجديدة وإعطاء الفرصة للظهور وتعريف الجمهور وكبار الملحنين والكتاب بهم، في بادئ الأمر بدئت كل من سناء وصفاء ثنائيا جميلا