فنون

الحريري .. دالية من الذكريات

فرج‭ ‬غيث

كنا‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬النقاء‭ ‬نجلس‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬الإفطار‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تحضرها‭ ‬أمي‭ ‬رحمها‭ ‬الله،‭ ‬كان‭ ‬إفطارا‭ ‬صحيا‭ ‬ومفيدا،‭ ‬وكانت‭ ‬الجلسة‭ ‬مفعمة‭ ‬بالألفة،‭ ‬مليئة‭ ‬بالنصائح‭ ‬والتعليمات‭ ‬اليومية،‭ ‬وكانت‭ ‬أمي‭ ‬حريصة‭ ‬على‭ ‬ظهورنا‭ ‬بالمظهر‭ ‬اللائق‭ ‬دائما،‭ ‬وأيام‭ ‬الدراسة‭ ‬يكون‭ ‬الأمر‭ ‬أشبه‭ ‬بمعسكر‭ ‬إعداد‭ ‬تام،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬الاختبارات،‭ ‬ويكون‭ ‬النوم‭ ‬والاستيقاظ‭ ‬باكرا،‭ ‬ولا‭ ‬نخرج‭ ‬الا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تطمئن‭ ‬علينا‭. ‬وكانت‭ ‬من‭ ‬عاداتها‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬صباح‭ ‬فتح‭ ‬الجهاز‭ ‬المسموع‭ )‬الراديو‭(‬،‭ ‬كنا‭ ‬نستمع‭ ‬إلى‭ ‬برامج‭ ‬الصباح‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬مميزة‭ ‬ورائعة،‭ ‬كانت‭ ‬الاذاعة‭ ‬تبث‭ ‬أغاني‭ ‬لازال‭ ‬وقعها‭ ‬كبيرا،‭ ‬ولازالت‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا،‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬الطفولة‭ ‬البريئة،‭ ‬التي‭ ‬عشناها‭ ‬بكل‭ ‬تميز،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬المأكل‭ ‬والملبس،‭ ‬وعلاقتنا‭ ‬بالجيران،‭ ‬والاصدقاء،‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الثقافة‭ ‬كان‭ ‬الأمر‭ ‬مختلف‭ ‬عما‭ ‬هو‭ ‬الأن،‭ ‬لازلت‭ ‬أذكر‭ ‬المكتبة‭ ‬التي‭ ‬اشتريت‭ ‬منها‭ ‬أول‭ ‬مجلة،‭ ‬وأول‭ ‬كتاب،‭ ‬كانت‭ ‬مكتبة‭ ‬الأستاذ‭ ‬جمال‭ ‬المحيشي‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬مصراتة‭ ‬بمدينة‭ ‬بنغازي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬تنتقل‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬عمر‭ ‬المختار،‭ ‬كنت‭ ‬حريصا‭ ‬على‭ ‬متابعة‭ ‬وشراء‭ ‬المجلات‭ ‬الخاصة‭ ‬بالأطفال،‭ ‬بداية‭ ‬من‭ ‬مجلة‭ ‬الأمل‭ ‬الليبية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تشرف‭ ‬عليها‭ ‬ماما‭ ‬خديجة‭ ‬الجهمي‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬عليها،‭ ‬ثم‭ ‬مجلة‭ ‬بساط‭ ‬الريح،‭ ‬وسلسلة‭ ‬العملاق،‭ ‬ومجلة‭ ‬سامر‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تصدر‭ ‬من‭ ‬بيروت،‭ .‬وغيرها‭ ‬المثير‭ ‬مما‭ ‬لايتسع‭ ‬المجال‭ ‬بذكره‭ .‬

‭ ‬صور‭ ‬كثيرة‭ ‬جميلة‭  ‬لازالت‭ ‬مخزنة‭ ‬بذاكرتي،‭ ‬أصبحت‭ ‬أطلال‭ ‬من‭ ‬الماضي‭ ‬الجميل،‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬فيه‭ ‬الثقافة‭ ‬والفن‭ ‬في‭ ‬بلادي،‭ ‬وفي‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬لها‭ ‬معنى‭ ‬حقيقي،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يجتاحها‭ ‬طوفان‭ ‬الفساد‭ ‬والتخلف‭ ‬والتملق،‭ ‬ليلقي‭ ‬بظلاله‭ ‬على‭ ‬حال‭ ‬المواطن‭ ‬الأن‭ ‬وخاصة‭ ‬فئات‭ ‬الشباب،‭ ‬ولا‭ ‬اختلف‭ ‬مع‭ ‬أحد‭ ‬كونه‭ ‬أسلوب‭ ‬ممنهج‭ ‬ومتطور‭ ‬وتأثير‭ ‬دخيل‭ ‬سيطر‭ ‬على‭ ‬العقول‭ ‬وأوقفها‭.‬

من‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬الجميلة‭ ‬أغنية‭ ‬خالدة‭ ‬تعتبر‭ ‬من‭ ‬أشهر‭ ‬كلاسيكيات‭ ‬الأغاني‭ ‬الليبية‭ ‬الرائعة،‭ ‬والتي‭ ‬لازالت‭ ‬تحتفظ‭ ‬بها‭ ‬الذاكرة‭ ‬الشعبية‭ ‬إلى‭ ‬يومنا‭ ‬هذا،‭ ‬عمل‭ ‬مميز‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬اللحن‭ ‬والكلمة،‭ ‬كلمات‭ ‬جميلة‭ ‬نظمها‭ ‬الشاعر‭ ‬الليبي‭ ‬الراحل‭ ‬احمد‭ ‬الحريري‭ ‬رحمه‭ ‬الله،‭ ‬وأساغها‭ ‬لحنا‭ ‬الملحن‭ ‬الليبي‭ ‬عبد‭ ‬الباسط‭ ‬البدري،‭ ‬وتغنت‭ ‬بها‭ ‬فرقة‭ ‬ثلاثي‭ ‬المرح‭ ‬من‭ ‬مصر،‭ ‬وسجلت‭ ‬للإذاعة‭ ‬الليبية‭.‬

أغنية‭ )‬يالعنب‭ ‬ويالعنب‭ ‬الله‭ ‬يبارك‭ ‬ع‭ ‬الدالية‭( ‬من‭ ‬الأغاني‭ ‬الليبية‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬لازالت‭ ‬راسخة‭ ‬في‭ ‬ذاكرتنا‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬مرور‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭ ‬على‭ ‬إذاعتها،‭ ‬وكذلك‭ ‬أغاني‭ ‬رائعة‭ ‬أخرى‭ ‬لازلنا‭ ‬نستذكرها‭ ‬مثل‭ ‬أغنية‭ ‬يا‭ ‬بيت‭ ‬العيلة‭ ‬يا‭ ‬عالي‭ ‬للراحل‭ ‬محمود‭ ‬الشريف،‭ ‬وأغنية‭ ‬بين‭ ‬النخل‭ ‬والبير‭ ‬والزيتونة‭ ‬للفنان‭ ‬يوسف‭ ‬عزت،‭ ‬وأغنية‭ ‬فكرتينا‭ ‬يا‭ ‬زهرة‭ ‬الياسمين‭ ‬للفنان‭ ‬نوري‭ ‬كمال،‭ ‬وأغنية‭ ‬أنشد‭ ‬يا‭ ‬سيد‭ ‬الحلوين‭ ‬وأشغل‭ ‬فكرك‭ ‬مرة‭ ‬بينا‭ ‬للفنان‭ ‬سلام‭ ‬قدري،‭ ‬وأغنية‭ ‬نور‭ ‬عيون‭ ‬وأغنية‭ ‬مازال‭ ‬شاغلني‭ ‬وننشد‭ ‬عنه‭ ‬للفنان‭ ‬علي‭ ‬الشعالية،‭ ‬واغنية‭ ‬قلبي‭ ‬الي‭ ‬جفيته‭ ‬يعشم‭ ‬فيك‭ ‬للفنان‭ ‬السيد‭ ‬بومدين،‭ ‬وأغنية‭ ‬حبيب‭ ‬خاطري‭ ‬والقلب‭ ‬للفنان‭ ‬نوشي‭ ‬خليل،‭ ‬وأغنية‭ ‬مشيتي‭ ‬وين‭ ‬وأغنية‭ ‬القلب‭ ‬ما‭ ‬ينساكم‭ ‬للفنان‭ ‬محمد‭ ‬رشيد،‭ ‬أعمال‭ ‬خالدة‭ ‬رائعة‭ ‬كان‭ ‬يرددها‭ ‬السميعة‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الى‭ ‬جيل،‭ ‬وكلمات‭ ‬جميلة‭ ‬يتلقفها‭ ‬الشعراء‭ ‬كمداخل‭ ‬لأغانيهم‭.‬

في‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ )‬يالعنب‭ ‬ويالعنب‭ ‬الله‭ ‬يبارك‭ ‬ع‭ ‬الدالية‭( ‬أستعمل‭ ‬الشاعر‭ ‬الليبي‭ ‬المبدع‭ ‬الراحل‭ ‬احمد‭ ‬الحريري‭ ‬ارق‭ ‬الكلمات‭ ‬في‭ ‬التعبير‭ ‬عن‭ ‬ذكريات‭ ‬البيت‭ ‬الليبي‭ ‬الأصيل،‭ ‬وارتباط‭ ‬شجرة‭ ‬العنب‭ ‬مع‭ ‬الناس‭ ‬فترة‭ ‬ستينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬الجميل،‭ ‬وقتها‭ ‬كان‭ ‬لا‭ ‬يخلوا‭ ‬بيت‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬ليبيا‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬الحواضر‭ ‬الثلاث‭ ‬طرابلس‭ ‬وبنغازي‭ ‬ودرنة‭ ‬من‭ ‬وجود‭ ‬هذه‭ ‬الشجرة،‭ ‬واستعمل‭ ‬الموسيقار‭ ‬عبدالباسط‭ ‬البدري‭ ‬في‭ ‬اللحن‭ ‬كورال‭ ‬للأطفال‭ ‬لترديد‭ ‬اللازم،‭ ‬ليؤكد‭ ‬الربط‭ ‬مع‭ ‬جذور‭ ‬الاغنية‭ ‬الرائعة‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬زالت‭ ‬تتناقل‭ ‬بين‭ ‬الأجيال‭ ‬من‭ ‬جيل‭ ‬الى‭ ‬جيل،‭ ‬بالرغم‭ ‬من‭ ‬التلوث‭ ‬الفني‭ ‬الذي‭ ‬نعيشه‭ ‬هذه‭ ‬السنوات‭ ‬بما‭ ‬يسمى‭ ‬أغاني‭ ‬دخيلة‭ ‬على‭ ‬مجتمعنا‭ ‬الأصيل،‭ ‬فمنذ‭ ‬متى‭ ‬كان‭ ‬شبابنا‭ ‬يهتم‭ ‬بالتلوث‭ ‬السمعي‭ ‬مثل‭ ‬شواذ‭ ‬Rap‭ ‬أو‭ ‬Hip Hop‭ ‬و‭ ‬Heavy metal‭ ‬وThrash‭ ‬وDeath،‭ ‬وهرطقات‭ ‬مطاعم‭ ‬الاسكندرية‭ ‬الهابطة،‭ ‬وهرطقات‭ ‬الإعلانات‭ ‬المصرية‭ ‬الرخيصة،‭ ‬ليصل‭ ‬بهم‭ ‬الحال‭ ‬الى‭ ‬هذا‭ ‬الانهيار‭ ‬لدرجة‭ ‬الحضيض‭.‬

ياه‭ .. ‬لقد‭ ‬تغير‭ ‬هذا‭ ‬الامر‭ ‬كثيرا‭ ‬الان،‭ ‬مع‭ ‬تغيير‭ ‬كل‭ ‬شيء،‭ ‬تغير‭ ‬شكل‭ ‬بناء‭ ‬ومعمار‭ ‬طراز‭ ‬البيت‭ ‬الليبي‭ ‬العريق‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تظلل‭ ‬فناءه‭ ‬دالية‭ ‬شجرة‭ ‬العنب‭ ‬الكبيرة‭ ‬الجميلة،‭ ‬تغيرت‭ ‬هذه‭ ‬الأشياء‭ ‬الجميلة‭ ‬إلى‭ ‬فوضى‭ ‬وعشوائيات‭ ‬واختناقات‭.‬

فرقة‭ ‬ثلاثي‭ ‬المرح‭ ‬التي‭ ‬غنت‭ ‬هذه‭ ‬الأغنية‭ ‬الرائعة‭ ‬هي‭ ‬فرقة‭ ‬غنائية‭ ‬مصرية‭ ‬شهيرة‭ ‬مكونة‭ ‬من‭ ‬ثلاث‭ ‬مغنيات،‭ ‬وفاء‭ ‬محمد‭ ‬مصطفى‭ ‬وصفاء‭ ‬يوسف‭ ‬لطفي‭ ‬وسناء‭ ‬الباروني‭ )‬شقيقة‭ ‬الفنانة‭ ‬سهير‭ ‬الباروني‭(‬‭ ‬تخرجن‭ ‬من‭ ‬معهد‭ ‬الموسيقي‭ ‬العربية،‭ ‬وظهرن‭ ‬في‭ ‬خمسينيات‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭.‬

بدأت‭ ‬الفرقة‭ ‬في‭ ‬الظهور‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬برامج‭ ‬الهواة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تقدمها‭ ‬الإذاعة‭ ‬المصرية‭ ‬آنذاك‭ ‬لتقديم‭ ‬الأصوات‭ ‬الجديدة‭ ‬وإعطاء‭ ‬الفرصة‭ ‬للظهور‭ ‬وتعريف‭ ‬الجمهور‭ ‬وكبار‭ ‬الملحنين‭ ‬والكتاب‭ ‬بهم،‭ ‬في‭ ‬بادئ‭ ‬الأمر‭ ‬بدئت‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬سناء‭ ‬وصفاء‭ ‬ثنائيا‭ ‬جميلا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى