اجتماعي

التنمّر في ليبيا… واقع ينهك الأرواح .. يشوه النفوس

واقع‭ ‬ينهك‭ ‬الأرواح‭ .. ‬يشوّه‭ ‬النفوس

في‭ ‬فناء‭ ‬المدرسة،‭ ‬عند‭ ‬ممرات‭ ‬الجامعة،‭ ‬في‭ ‬ساحات‭ ‬العمل،‭ ‬وأمام‭ ‬شاشات‭ ‬الهواتف…في‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأماكن‭ ‬التي‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬آمنة،‭ ‬صار‭ ‬التنمّر‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬واقعًا‭ ‬يُنهك‭ ‬الأرواح‭ ‬ويشوّه‭ ‬النفوس‭.‬

لم‭ ‬يعد‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬مناكفة‮»‬‭ ‬عابرة،‭ ‬بل‭ ‬تحول‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬نفسية‭ ‬تمارس‭ ‬بوعي‭ ‬وبلا‭ ‬وعي،‭ ‬بقسوة‭ ‬تُبكي‭ ‬الأطفال،‭ ‬وتكسر‭ ‬الكبار‭.‬

‮«‬اللي‭ ‬يتمنر‭ ‬أكثر‭ ‬يربح‭ ‬أكثر‭ !‬‮»‬

قالها‭ ‬طالب‭ ‬في‭ ‬إحدى‭ ‬مدارس‭ ‬الجبل‭ ‬الغربي،‭ ‬ساخرًا‭ ‬وهو‭ ‬يصف‭ ‬زميله‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يسلم‭ ‬من‭ ‬تعليقات‭ ‬على‭ ‬مشيته،‭ ‬بشرته،‭ ‬حتى‭ ‬طعامه‭ ‬الذي‭ ‬تحضّره‭ ‬له‭ ‬والدته‭.‬

في‭ ‬عالمهم،‭ ‬أصبح‭ ‬التنمّر‭ ‬سلاحًا‭ ‬للصعود‭ ‬الاجتماعي،‭ ‬لا‭ ‬عيبًا،‭ ‬بل‭ ‬‮«‬ميزة‮»‬‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬بلا‭ ‬أخلاق‭.‬

قصص‭ ‬تسقط‭ ‬كأوراق‭ ‬الخريف

رنا‭ )‬16‭( ‬عامًا،‭ ‬توقفت‭ ‬عن‭ ‬الذهاب‭ ‬إلى‭ ‬المدرسة‭ ‬في‭ ‬طرابلس‭ ‬بعدما‭ ‬نُشرت‭ ‬صورة‭ ‬معدلة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مجموعة‭ ‬واتساب‭ ‬للطالبات،‭ ‬كنوع‭ ‬من‭ ‬السخرية‭ ‬من‭ ‬‮«‬أسنانها‭ ‬المعوّجة‮»‬‭.‬

أيمن‭ )‬10‭( ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬سبها،‭ ‬أصبح‭ ‬يتأتئ‭ ‬في‭ ‬الكلام‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬نجم‭ ‬الفصل،‭ ‬لأن‭ ‬زميله‭ ‬وصفه‭ ‬بالـ«معفن‮»‬‭ ‬مرارًا‭ ‬بسبب‭ ‬لباسه‭ ‬البسيط‭.‬

ليلى‭ ‬موظفة‭ ‬من‭ ‬الخمس،‭ ‬تتعرض‭ ‬لتنمّر‭ ‬خفي‭ ‬داخل‭ ‬مكتبها‭ ‬من‭ ‬زميلات‭ ‬يهمسن‭ ‬خلف‭ ‬ظهرها‭ ‬بسبب‭ ‬طلاقها،‭ ‬‮«‬كأنني‭ ‬وصمة‭ ‬عار‭!‬‮»‬‭ ‬تقول‭ ‬وهي‭ ‬تبكي‭.‬

الدين‭ ‬والمروءة‭ ‬التي‭ ‬غابت

يقول‭ ‬أحد‭ ‬مشايخ‭ ‬بنغازي‭:‬‭ ‬‮«‬رسول‭ ‬الله‭ ‬نهى‭ ‬عن‭ ‬التباغض‭ ‬والسخرية،‭ ‬وعلينا‭ ‬أن‭ ‬نعلم‭ ‬أبناءنا‭ ‬أن‭ ‬الكلمة‭ ‬قد‭ ‬تكون‭ ‬سهمًا‭ ‬قاتلًا‭.‬

ما‭ ‬قيمة‭ ‬الدين‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬خلقًا؟‮»‬

ويعلق‭ ‬أحد‭ ‬معلمي‭ ‬مدينة‭ ‬زليتن‭:‬‭ ‬‮«‬نحن‭ ‬أمام‭ ‬جيل‭ ‬اختلطت‭ ‬عليه‭ ‬مفاهيم‭ ‬الشجاعة،‭ ‬فصار‭ ‬يسخر‭ ‬ليضحك،‭ ‬ويُحرج‭ ‬ليكسب‭ ‬إعجابًا‭ ‬رخيصًا‭.‬‮»‬

الجراح‭ ‬النفسية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تُرى

تقول‭ ‬الأختصاصية‭ ‬النفسية‭ ‬د‭. ‬سمر‭ ‬بن‭ ‬طاهر‭ ‬من‭ ‬مصراتة‭:‬

‮«‬80‭% ‬من‭ ‬المراهقين‭ ‬الذين‭ ‬يزورون‭ ‬العيادات‭ ‬النفسية‭ ‬عانوا‭ ‬من‭ ‬تنمّر‭ ‬مستمر،‭ ‬وتحوّلوا‭ ‬إلى‭ ‬شباب‭ ‬منغلق،‭ ‬حاقد،‭ ‬أو‭ ‬مكتئب‭. ‬بعضهم‭ ‬بدأ‭ ‬يفكر‭ ‬بالانتحار‭.‬‮»‬

وتضيف‭: ‬‮«‬أسوأ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬التنمّر‭ ‬أنه‭ ‬يخلق‭ ‬ضحية‭ ‬وجاني‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬لأن‭ ‬بعض‭ ‬من‭ ‬يتنمّر‭ ‬اليوم‮…‬‭ ‬كان‭ ‬ضحية‭ ‬بالأمس‭.‬‮»‬

وسائل‭ ‬التواصل‮…‬‭ ‬ساحات‭ ‬تعذيب‭ ‬علنيّة

في‭ ‬الفيسبوك،‭ ‬التيك‭ ‬توك،‭ ‬والواتساب،‭ ‬صارت‭ ‬الصور‭ ‬والمواقف‭ ‬تُنشر‭ ‬باسم‭ ‬‮«‬الضحك‮»‬،‭ ‬لكنها‭ ‬لا‭ ‬تضحك‭ ‬أحدًا‭ ‬سوى‭ ‬المتنمّرين‭.‬

والمؤسف‭ ‬أن‭ ‬التفاعل‭ ‬الأكبر‭ ‬يأتي‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬كرامة‭ ‬أحدهم،‭ ‬بصيغة‭ ‬‮«‬ميمز‮»‬‭ ‬أو‭ ‬‮«‬تريلر‮»‬‭ ‬تُعيد‭ ‬نشر‭ ‬الجرح‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬مرة‭.‬

جمعيات‭ ‬تقاوم‭ ‬الصمت‮…‬‭ ‬رغم‭ ‬قلة‭ ‬الحيلة

تشير‭ ‬تقارير‭ ‬غير‭ ‬رسمية‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬37‭% ‬من‭ ‬طلاب‭ ‬المدارس‭ ‬في‭ ‬ليبيا‭ ‬تعرضوا‭ ‬لشكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬التنمّر‭ ‬في‭ ‬2024،‭ ‬مع‭ ‬تسجيل‭ ‬ارتفاع‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬الاكتئاب‭ ‬والانقطاع‭ ‬الدراسي،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬مدن‭ ‬مثل‭ : ‬مصراتة،‭ ‬طرابلس،‭ ‬صبراتة،‭ ‬والخمس‭.‬

رغم‭ ‬شح‭ ‬الدعم،‭ ‬تعمل‭ ‬جمعيات‭ ‬أهلية‭ ‬مثل‭ : ‬‮«‬الأمل‭ ‬للتوعية‭ ‬والتنمية‮»‬‭ ‬و‭*‬‮«‬كون‭ ‬إنسان‮»‬‭* ‬على‭ ‬إطلاق‭ ‬حملات‭ ‬ميدانية‭ ‬وورش‭ ‬دعم‭ ‬نفسي‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬المدارس‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الجهود‭ ‬تبقى‭ ‬محدودة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬غياب‭ ‬استراتيجية‭ ‬وطنية‭ ‬حقيقية‭ ‬لاحتواء‭ ‬الظاهرة‭.‬

المرأة‭ ‬والطفل‮…‬‭ ‬الحلقة‭ ‬الأضعف

يبرز‭ ‬التنمّر‭ ‬بوحشية‭ ‬ضد‭ ‬النساء،‭ ‬خصوصًا‭ ‬في‭ ‬حالات‭ ‬الطلاق،‭ ‬الحمل‭ ‬خارج‭ ‬التوقع،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬النجاح‭ ‬اللافت‭.‬

‮«‬كل‭ ‬ما‭ ‬تكبر‭ ‬بنتي،‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬نخاف‭ ‬عليها‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬كلام‭ ‬الناس،‭ ‬مش‭ ‬من‭ ‬الحياة‮»‬،‭ ‬هكذا‭ ‬قالت‭ ‬أم‭ ‬شابة‭ ‬من‭ ‬درنة‭ ‬بحسرة‭.‬

نهاية‭ ‬بلا‭ ‬خاتمة‮…‬

التنمّر‭ ‬ليس‭ ‬مجرد‭ ‬ظاهرة‭ ‬اجتماعية‭ ‬عابرة‭. ‬إنه‭ ‬جريمة‭ ‬أخلاقية،‭ ‬وسلوك‭ ‬جبان،‭ ‬وجرح‭ ‬مفتوح‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬المجتمع‭.‬

وما‭ ‬لم‭ ‬نربّ‭ ‬أبناءنا‭ ‬على‭ ‬المروءة،‭ ‬ونخلق‭ ‬بيئة‭ ‬تحمي‭ ‬الأضعف،‭ ‬سيظل‭ ‬المتنمّر‭ ‬هو‭ ‬المنتصر‮…‬‭ ‬والخاسر‭ ‬في‭ ‬آنٍ‭ ‬معًا‭.‬

رسالة‭ ‬مفتوحة‭:‬

علّموا‭ ‬أبناءكم‭ ‬أن‭ ‬الكلمة‭ ‬طُهر‮…‬‭ ‬أو‭ ‬خنجر‭.‬

وأن‭ ‬من‭ ‬يضحك‭ ‬على‭ ‬الآخرين،‭ ‬هو‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬يُبكيهم‭ ‬حين‭ ‬يسكت‭ ‬الجميع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى